من الذي لا يحب النبل حين يتحرك على قدمين.. من الذي لا يحب معلمة الأجيال والمصرية النبيلة حاملة وحاضنة الألم والأمل الفلسطيني؟!.. من الذي لا يحب رضوى؟!. رضوى المهمة والقامة اختار لها جدها اسمها على اسم "جبل الرضوى" الذي يشرف على المدينة المنورة ويضرب به العرب المثل في الرسوخ والعلو. ورغم محاولات البعض خلط الأوراق والتلاعب بالحقائق فإن فلسطين عشق رضوى الأبدي كانت وستبقى في القلب المصري أقوى من أي حماقات أو ممارسات لأطراف راغبة في الإضرار بمصر وشعبها وبفلسطين والقضية الفلسطينية. رضوى عاشور التي ولدت في القاهرة عام 1946 تشكل على المستوى الخاص والعام أمثلة لخصوصية العلاقة بين الشعبين المصري والفلسطيني فيما تعد هذه الروائية المبدعة والأكاديمية المتجددة والمجددة أيقونة ثقافية مصرية وصوتًا لن يغيبه الموت دفاعًا عن حق الحياة للفلسطينيين. وفي كتاب "رأيت رام الله" للشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي ومضات مشرقة بكل ما هو إنساني ونبيل عن علاقته بزميلته في الجامعة رضوى عاشور والتي توجت بالزواج وإنجاب الابن تميم الذي ورث موهبة الشعر وملكات الإبداع عن والديه. ومريد البرغوثي ذاته أحد أبرز المثقفين الفلسطينيين الذين تأثروا وأثروا في الثقافة المصرية وهو يقدم في كتابه "رأيت رام الله" لمحات عن هذه الحقيقة وخاصة في شبابه الباكر كطالب بجامعة القاهرة يتطلع لنشر قصائده في مجلات ثقافية مصرية في ستينيات القرن العشرين. ولم تكن أفضل من رضوى عاشور من تترجم مختارات للشاعر مريد البرغوثي إلى الإنجليزية صدرت في عام 2008 بعنوان "منتصف الليل وقصائد أخرى" وهو العام ذاته الذي صدرت فيه روايتها "فرج". فيما توالت إبداعاتها في عالم الرواية والقصة ما بين "مريمة والرحيل" و"أطياف" و"قطعة من أوروبا" مع اهتمام بقضايا الحداثة تجلى في عملها: "الحداثة الممكنة.. الشدياق والساق على الساق" كانت صاحبة "أيام طالبة مصرية في أمريكا" مثالاً وأمثولة لأكرم وأنبل معاني استغناء المثقف وترفعه عن التكالب على المغانم والزهد في أضواء شهرة كثيرًا ما تكون مضللة رغم غوايتها لبعض المثقفين. والدكتورة رضوى عاشور صاحبة "رأيت النخل" وأستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس عرفت بمواقفها المبدئية وتوجهاتها العروبية ودفاعها الصلب عن الحريات الأكاديمية والتصدي للظلم والفساد في ظل النظام الذي ثار ضده المصريون في يناير 2011 وكانت بحق نموذجًا مضيئًا للمثقف المصري القابض على جمر الحق والباحث دومًا عن الحقيقة. وحتى أطروحتها للدكتوراه في جامعة "ماساتشوستس" بالولايات المتحدة كانت تدخل في باب المقاومة بامتياز، حيث اختارت دراسة نماذج من الأدب المعبر عن المقاومة المبكرة من جانب الأفارقة الذين خطفوا وجُلِبوا كرقيق للأراضي الأمريكية ليسومهم "العم سام" سوء العذاب. وفي مواجهة المرض اللعين تجلت الشخصية المقاومة للمثقفة المصرية رضوى عاشور وأشهرت قلمها الوضيء لتكتب "أثقل من رضوى.. مقاطع من سيرة ذاتية" وتماهي بين أسرتها الصغيرة المصرية الفلسطينية وعائلتها الكبيرة من الثوار والحالمين والكادحين المنتمين لحزب العناد الرافض للهزيمة والصامد حتى اللحظة الأخيرة. وصاحبة "ثلاثية غرناطة" التي تبكيها مصر وفلسطين وكل الأمة العربية كادت أن تكون أمًا لكل طلابها وكأنهم "تميم" الذي يجسد بأشعاره الشابة هموم وتطلعات الأجيال المصرية والفلسطينية الصاعدة فيما اكتست مواقع التواصل الاجتماعي بلون الحداد لشباب يشعرون بالألم لفداحة فقد رضوى عاشور بكل ما كانت تمثله لهم من أمومة الحب والأمل والضياء والبهجة. والدكتورة رضوى عاشور المدافعة الباسلة عن قضايا التحرر الوطني والإنساني وفي مقدمتها القضية الفلسطينية كانت أيضًا صاحبة اهتمامات عميقة بالقضايا الأفريقية وصدر لها عام 1980 عمل نقدي بعنوان "التابع ينهض" حول التجارب والقضايا الأدبية في غرب أفريقيا. وأوفد الرئيس عبدالفتاح السيسي مندوبًا لتقديم واجب العزاء بمسجد عمر مكرم في الكاتبة رضوى عاشور فيما حضر العزاء يوم الأربعاء الماضي العديد من المثقفين ومن بينهم وزير الثقافة الأسبق الدكتور شاكر عبدالحميد والكاتب الروائي بهاء طاهر والشاعر أمين حداد جنبًا إلى جنب مع الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل. والدكتورة رضوى عاشور صاحبة المجموعة القصصية "تقارير السيدة راء" كانت ناشطة في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية واللجنة القومية لمقاومة الصهيونية في الجامعات المصرية وتعددت أنشطتها ومشاركاتها في الحياة الثقافية العربية من المحيط إلى الخليج بقدر ما يمكن وصفها بأنها صاحبة التأريخ الإبداعي للأمة العربية وإحياء ذاكرة العروبة ومعنى الجرح الفلسطيني. وإذ لا يستطيع أي باحث منصف تجاهل ما قدمته مصر للقضية الفلسطينية وتضحياتها بالدم الغالي دفاعًا عن القضية المركزية للأمة العربية قال سامي شرف مدير مكتب المعلومات للرئيس الرحل جمال عبدالناصر والذي كلفه بمسئولية ملف غزة "إن هناك ذكريات وصلات قديمة قد ربطت بين عبدالناصر وقطاع غزة منذ حرب 1948". وفيما استعرض سامي شرف بعض أوجه العلاقات الوثيقة بين سكان القطاع ومصر فقد توقف عند ممارسات بعض الأطراف في غزة من حفر لأنفاق غير شرعية وتهريب للأسلحة ودعم لجماعات إرهابية، مؤكدًا على أن يقف وراء هذه الممارسات التي تهدد أمن واستقرار سيناء لا يريد الخير لمصر كما أنه يخدم أهداف أعدائها. وأضاف "ساذج من يفترض أن غزة وشعبها العربي الأصيل يقبل بديلاً عن العروبة" فيما خاطب أبناء القطاع بقوله: "أنتم في حبات العيون وفي القلب وإنّا لمنتظرون رد فعلكم تماشيًا مع الزمن وما يفرضه عليكم الواجب الوطني والقومي". وبين عامي 1947 و1948 توجه عدد كبير من الفلسطينيين إلى مصر وتبع ذلك موجات نزوح متفرقة كان أكبرها بعد حرب 1967 كما يقول حسن شاهين في دراسة عنوانها "الفلسطينيون في مصر". وأضاف هذا الكاتب الفلسطيني في دراسته إلى أن الفلسطينيين في مصر "يتوزعون حاليًا على معظم جغرافيا البلد وبيئاته المتعددة فمنهم من يقطن المدن ومنهم من يقطن الريف" وتتركز أغلبيتهم في محافظة الشرقية بقريتي جزيرة فاضل وعرب درويش وكذلك في مديرية التحرير وفي العريش ورفح بشمال سيناء. وإذا كانت "جزيرة فاضل" المصرية قد احتضنت الكثير من الفلسطينيين بعد نكبة 1948 فإن رضوى عاشور اختارت قرية فلسطينية كمسرح لأحداث روايتها "الطنطورية" بينما كانت أحداث حياة هذه المبدعة المصرية الكبيرة تجسد حقًا العلاقة الحميمة بين مصر وفلسطين ولعلها علاقة تتجلى في إبداعات الابن تميم الذي يكتب أحيانًا بعض أشعاره بالعامية المصرية والفلسطينية. كما يعيش الفلسطينيونبالقاهرة في الأحياء الشعبية كالوايلي وعين شمس والمطرية وفي الهرم وبولاق الدكرور وإمبابة بمحافظة الجيزة وفي مدينة 6 أكتوبر وفي أحياء شعبية بالإسكندرية مثل أبوقير والدخيلة فضلاً عن بنها عاصمة محافظة القليوبية ويقيم بعضهم في محافظة الدقهلية. ووفقًا لهذه الدراسة يصعب الحصول على تقدير دقيق لعدد الفلسطينيين في مصر غير أن ثمة إحصاءات غير رسمية قدرت عددهم في منتصف ثمانينيات القرن العشرين بنحو 35 ألف شخص وحسب اجتهادات باحثين يتراوح عدد الفلسطينيين في مصر حاليًا بين 60 ألفًا و120 ألف شخص فيما يؤكد صاحب الدراسة على أن مصر شكلت ملاذًا لأهل فلسطين كلما ألمت المحن ببلدهم. ورضوى عاشور التي لن تغيب عن سماء الثقافة المصرية والعربية أدركت مبكرًا بوعيها النقدي وفطرتها المصرية النقية وتركيبتها الإنسانية المبهرة طبيعة المحنة الفلسطينية وكانت أول دراسة نقدية لها قد صدرت في عام 1977 بعنوان "الطريق إلى الخيمة الأخرى" وهي دراسة عن التجربة الأدبية والإبداعية للمقاوم والمبدع الفلسطيني غسان كنفاني. وبعد أكثر من 66 عامًا على "النكبة" التي راح ضحيتها وطن بأكمله تبدو الحاجة جليّة لتأمل جذور الثقافة التي أنتجت هذه النكبة في فلسطين ومازالت تفرز المزيد من الجرائم والدماء المسفوكة فيما يستعد "الكنيست" لإقرار مشروع قانون جديد يعرف إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي". وواقع الحال أن رضوى عاشور كانت من أكثر المثقفين المصريين والعرب وعيًا بجوهر المشروع الصهيوني ومغزاه الاغتصابي للحق العربي في الوجود فيما لا تغيب دلالة مشروع القانون الجديد الذي أقرته حكومة بنيامين نتنياهو والمتعلق بتعريف إسرائيل وانعكاساته التي تتضمن بالضرورة تشجيع النزعات، ناهيك عن المخططات لتقسيم المنطقة العربية على أسس دينية وطائفية. وكذلك لن تغيب دلالة الدعوات والممارسات الإسرائيلية المتطرفة من حين لآخر لاقتحام المسجد الأقصى تعبيرًا عن جذور فكر متطرف في ثقافة تؤمن بأن هجومهم على أعدائهم هو "هجوم إلهي من دولة تجسد إرادة السماء على الأرض" وبصورة تفسر الكثير من الجرائم الدموية والوحشية الإسرائيلية منذ النكبة الأولى في فلسطين. ولعل خطورة هذا النوع من الثقافة أنه لا يجعل مسألة الاعتقاد بهذا الاختيار الإلهي مجرد إيمان خالص ينحصر بين الإنسان وخالقه وهو ما يمكن تفهمه وقبوله في سياق حق الإنسان في الإيمان الحر وإنما الأمر يتعدى ذلك كله ويتخطاه إلى العمل والممارسة فتبنى عليه دولة ويؤسس باسمه جيش ونظام وتبنى علاقات غير طبيعية بين الثقافات. وكما قيل بحق فإن بعض القضايا تبدو على السطح وكأنها قضايا سياسية فقط ولكن التعمق فيها يكشف عن أنها في الحقيقة قضايا ثقافية ترتبط بجوهر النظرة للعالم والوجود.. فثقافة الاستعلاء الدموى والإبادة والاقتلاع حاضرة بقوة ودموية في فلسطين كما هي حاضرة في الغضب المقاوم والثقافة المناوئة للمظلومية التاريخية كما تجلت في كتابات وإبداعات الدكتورة رضوى عاشور. وحتى تتحقق رؤية المثقفة المصرية النبيلة رضوى عاشور في أن كل ما يقيمه الاحتلال إلى زوال يومًا ما كما زال كل احتلال من قبل في التاريخ سيبقى الغضب وجرح الكبرياء وجمرات القضية ووجع المظلومية التاريخية وذاكرة النكبة ومقاومة العدوان. سلام على معلمة الأجيال وصاحبة "حجر دافئ" و"خديجة" و"سوسن" و"سراج" و"الطنطورية" بابتسامتها الوضيئة المضيئة.. سلام على المثقفة المستغنية عن عَرَض الدنيا وحطامها وصخب الأضواء وأوهامها.. سلام على المصرية النبيلة رضوى عاشور حاملة وحاضنة الألم والأمل الفلسطيني.. عودي إلى ربك "راضية مرضية" ونقولها معك بملء الفم ومن أعماق القلب: "فلسطين عربية.. فلسطين عربية.. فلسطين عربية".