تبدو الحاجة ماسة لتشريح ثقافي "لظاهرة داعش" التي باتت تفرض ذاتها على اهتمامات النخب والشارع في المنطقة بقدر ماتثير جدلا بين المثقفين سواء في مصر او العالم العربي حول حقيقة اهدافها وسبل مواجهتها. ويمكن وصف الداعشية بأنها "أعلى مراحل التطرف المعاصر" فيما يقوم فكر التنظيم على "الاستباحة للآخر" أي كل ما لا ينتمي لداعش ، غير أن النقطة اللافتة والتي ينبغي أن تكون موضع دراسات ثقافية عميقة تدور حول مسألة انضمام بعض الشباب الذين نالوا قسطا جيدا من التعليم لهذا التنظيم ناهيك عن ظاهرة التحاق بعض الشباب القادم من الغرب بحركة داعش التي تتمركز حاليا في العراق وسوريا وامتدت انشطتها للبنان. ومن المنظور التاريخي فإن حركة داعش تشكل انشقاقا عن تنظيم القاعدة منذ عام 2010 وتوصف بأنها "اكثر دموية من القاعدة " فيما تتفنن العناصر الداعشية في ارتكاب اشنع المذابح الدموية وجز الرؤوس وصلب الضحايا تخريب دور العبادة وتهجير الأقليات او ارتكاب فظائع ضدها تقشعر منها الأبدان. ومع اختلاف السياقات والظروف والملابسات قد تثير حركة داعش في الأذهان مقارنات مع حركات عنيفة في التاريخ العربي روعت المسلمين وغير المسلمين مثل "القرامطة" و"حركة الحشاشين" فيما توظف هذه الحركة الاحتقانات الطائفية والخلافات المذهبية وتآكل السلطة المركزية وتغييب روح المواطنة بما يخدم تحركاتها في المنطقة. وتطرح داعش فكرة قيام" دولة الخلافة" التي تسيرها أجهزة تعبرعن فكر التنظيم وهذه "الدولة الافتراضية" الممتدة من شرق آسيا إلى شرق أوروبا وتشمل مساحات كبيرة من أفريقيا ليست واضحة الحدود بصورة قاطعة كما يلاحظ الدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان. ويرى الدكتور شريف يونس أن علينا في هذه المنطقة التي ابتليت بالداعشية أن "نكف عن إلهاء الذات بإلقاء اللوم على المؤامرات الخارجية لتجنب النقد الذاتي لثقافتنا العربية المعاصرة" غير انه في المقابل قد يصح التساؤل حول مدى دقة تفسيره بشأن صعود الظاهرة الداعشية والحديث عن مسؤولية الأنظمة العاجزة والسياسات الغربية ومجمل تشققات النظام الدولي وهو تفسير قد يبدو "تقليديا" لتفسير ظاهرة تبدو "غير تقليدية". والظاهرة معقدة بالفعل حتى أن الصحفي والروائي ديفيد اغناتيوس أوضح في تصريح لصحيفة واشنطن بوست أن كبار مسؤولي المخابرات الأمريكية لم يؤيدوا وجهة نظر الرئيس باراك اوباما التي ذهب فيها الى ان داعش او مايسمى "بتنظيم الدولة الاسلامية" يرتكب من الفظائع والممارسات السيئة ماسينتهي به لهزيمة نفسه بنفسه. ويرى هؤلاء المسؤولون في المخابرات الأمريكية أن داعش أبدى قدرة ملحوظة على البقاء وهو "تنظيم مثابر ومنظم للغاية ويتسم أحيانا بالبراجماتية والمرونة" معيدين للأذهان ان حركة داعش في ظل قيادة المدعو "ابو بكر البغدادي" زادت اعداد مقاتليها من 1500 مقاتل عام 2010 لأكثر من عشرة آلاف مقاتل وهناك من يرتفع بالعدد اليوم إلى 50 ألفا أو أكثر ، وأمسى التنظيم قادرا على التواصل بلغات عديدة. واذا كان هذا التنظيم يمكن أن ينهار مع مرور الوقت جراء الضغوط التي يواجهها والبدائل المتاحة كما يقول ديفيد اغناتيوس فإن مسألة كونه يشكل "ظاهرة غير تقليدية" تتجلى في تقديرات مسؤولي المخابرات الأمريكية من أن الوسائل المتعارف عليها لمكافحة الإرهاب مثل هجمات الطائرات دون طيار والهجمات الجوية الأخرى لن تكون كافية لهزيمة "داعش". والنظرة المتأملة لداعش تكشف عن ان هذه الحركة طورت الأساليب التقليدية لتنظيم القاعدة كما انها اكثر براعة في التعامل مع مستحدثات ثورة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي واستخدام لغات مثل الألمانية والروسية الى جانب العربية والانجليزية مستفيدة في ذلك من انضمام مقاتلين اجانب للحركة فيما ستشكل عودة هؤلاء المقاتلين لبلادهم اشكالية حقيقية. ومن نافلة القول أن هذه "الدولة الافتراضية" لا تعترف بأي قواعد استقر عليها المجتمع الدولي بقدر ما هي دولة ترفض مباديء الدولة الحديثة في مجملها سواء من حيث طبيعة البنية الداخلية أو الحدود والالتزامات الدولية. ومع التسليم بضرورة عدم الإسراف في نظرية المؤامرة فإن هناك من الأسئلة ما يتوجب طرحها مثل :" كيف ومن اين حصلت حركة داعش على المعدات التي دخلت بها مدينة الموصل العراقية ومن بينها كما اكدت العديد من الروايات مئات ان لم يكن آلاف السيارات من طراز واحد وبلون واحد"؟!. وجاءت ظاهرة داعش لتغذي المخاوف من تحول "الدولة الوطنية" في العالم العربي إلى أشلاء تعيد إنتاج المراثي التاريخية العربية وتتغذي بها ثقافة الحزن العربي وإلحاق المزيد من الأذى بالأمة العربية عبر بوابة "الاقتتال الطائفي". ومع احتلال العراق الصدارة في شريط الأنباء توالت طروحات ومقالات مثقفين وكتاب مصريين حول حقيقة ما يحدث عند "البوابة الشرقية للأمة العربية" وقصة ذلك التنظيم المسلح الذي كان يسمى "بالدولة الاسلامية في العراق والشام" المعروف بالاختصار "داعش" والذي بات طرفا رئيسا في المشهد الراهن الذي يستدعي مواريث مذهبية وطائفية لاتحمل لهذه الأمة سوى نذر تقسيم المقسم وتفتيت ماتبقى من الجسد العربي. وفي الوقت ذاته فإن أي صاحب ضمير حي لا يمكن أن يقبل تعرض السنة في العراق لعمليات تهميش وممارسات إقصائية بإيعاز مذهبي من طرف معني بإضعاف الأمة العربية وإصابة روحها القومية بالوهن وهو في سبيل ذلك يشجع الفتاوى التي تصدرها مرجعيات شيعية بصبغة سياسية فاقعة. و لاجدال أن "داعش" تصب في مربع تأجيج نيران الطائفية المهددة للتماسك المجتمعي على مستوى الدولة الوطنية في العالم العربي وصولا لتفكيك كل دولة لمجموعة من الكانتونات الطائفية الهزيلة والتي لا يمكن أن تعيش بلا دعم من قوى إقليمية ودولية تتكالب لمزيد من تمزيق الأمة العربية. واليوم وعلى ايقاع "داعش" بأساطيرها وخرافاتها وارهابها وعلاقاتها الغامضة مع قوى خارجية ودون ايغال او اسراف في "نظرية المؤامرة" يحق التحذير بقوة من بلقنة المنطقة العربية او المزيد من تجزئة المجزأ والعجز عن لملمة ما بقى متماسكا من اشلاء هذا الوطن العربي الكبير فيما لم تتورع أطراف تمسحت بالدين عن الاسهام في تنفيذ مخطط الشرق الأوسط الجديد بكل ما يعنيه ذلك المخطط من تفكيك وتقسيم وتفتيت وخلط للمفاهيم. إنه المخطط "المؤامرة" لإعادة رسم الخرائط العربية وإعادة تقسيم الدول العربية وإعادة إنتاج دول أو دويلات أكثر تجانسا واستقرارا ما يعنى أن التقسيم هو الحل!. وفي الابتلاءات العصيبة للعراق وسوريا يشكل تنظيم "داعش" جزءا من ظاهرة "الجيوش الجوالة" المتلفعة بالغموض والتي تظهر فجأة وتهاجم بصورة خاطفة وتختفي فجأة بعد ان تثير الفوضى والذعر في هذا البلد أو ذاك على الخارطة العربية. وإذا كان الإرهاب قد تحول إلى "ظاهرة كوكبية" فإن حركة داعش تشكل نقلة نوعية في هذا المناخ العالمي المضطرب بقدر ما تؤجج "سلطان الأسطورة" وتناهض سلطة العقل.