في مثل هذا اليوم من عام 1949م بعد أن اشتد عليه المرض، شهدت القاهرة وفاة الشاعر الوحيد الذي عاش دون أعداء، كما شهدت انطلاقته الأدبية، إذ عاش الشاعر اللبناني الكبير خليل مطران يشاطر الناس أفراحهم وأتراحهم ويعطف على بائسيهم وفقرائهم، وينقم من حكامهم الظالمين المتغطرسين، وينادي بالشورى وحكم الدستور، ولهذا ثار على الأوضاع السياسية وعلى الظلم، وثورته السياسية لم تقل عن ثورته على الأوضاع الاجتماعية من جهل وفقر ومرض. خليل مُطران "شاعر القطرين" (1 يوليو 1872 - 1 يونيو 1949) أسطورة شعر لبنانية، عاش معظم حياته في مصر، عرف بغوصه في المعاني وجمعه بين الثقافة العربية والأجنبية، كما كان من كبار الكتاب وعمل بالتاريخ والترجمة، يشبّه بالأخطل بين حافظ وشوقي، كما شبهه المنفلوطي بابن الرومي. وعرف مطران بغزارة علمه وإلمامه بالأدب الفرنسي والعربي، هذا بالإضافة لرقة طبعه ومسالمته وهو الشيء الذي انعكس على أشعاره. وأُطلق عليه لقب "شاعر القطرين" ويقصد بهما مصر ولبنان، وبعد وفاة حافظ وشوقي أطلقوا عليه لقب "شاعر الأقطار العربية". نجح مطران في محاولته، وتميز بين شعراء عصره بأنه صاحب مدرسة التجديد في الأدب العربي، إذ نقل الشعر العربي من أغراضه التقليدية البدوية وتصوراته القبلية إلى أغراض جديدة، تنسجم مع متطلبات العصر واتجاهاته المدنية الحديثة، مع الحفاظ على أصول اللغة والتعبير، كما أدخل الشعر القصصي والتصويري للأدب العربي، ولذلك اعتبره النقاد رائد المدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر. وفي هذا المجال يقول شعرًا: خواطر وضّاءة بها ملامح السهر ألبستها من أدمعي ومن دمي هذي الحبر قشيبة غربية عصرية نسج مُضَر اقتدى مطران ب"لامارتين وألفرد دو موسيه" في حبهم للرومانسية، حيث سافر إلى فرنسا، وكان قد درس الفرنسية وأتقنها قبل سفره. ولما كانت العاطفة تتجمع أشد ما تتجمع في الحب، أخذ الشعراء الرومانسيون يقدسونه، فالله محبة، والحب هو الذي يربط العوالم بعضها ببعض، وكل ما في الطبيعة يحب، حتى الجماد يحب، ومن هنا اصطبغت الرومانسية بالصبغة الصوفية، وأصبح الحب الرومانسي حبًا مثاليًّا غير مدنّس بشهوة جسدية عابرة. ومن أشعاره في هذا الصدد: لم أنس حين التقينا والروض زاه نضير إذ العيون نيام والليل راء حسير تشكو الغرام دعابا ورُب شاكٍ شكور وفي الهواء حنين من الهوى وزفير وللمياه أنين تذوب منه الصخور وللنسيم حديث على المروج يدور وللأزهر فكر يرويه عنها العبير وكتب شاعر القطرين الشعر القصصي في منحيين: تاريخي واجتماعي، فالأول أخذ مادته من التاريخ على غرار شكسبير، إما باستغلال القصة التاريخية، وإما بتناولها بخياله مع شيء من التحوير، والثاني أخذ مادته من صميم الحياة الاجتماعية والبيئة التي يعيش فيها، وفي هذا الشعر تفوّق على كل من تقدمه من شعراء العرب، ولو قرأنا نتاجه كلّه لوجدنا ذلك النوع غالبًا على معظم شعره. إن الحركة الإبداعية التي قام بها مطران لم تكن في جميع نواحيها تجديدًا وخروجًا على القديم وثورة عليه، إنما كانت في بعض النواحي، تتصل بالأغراض العامة للشعر من دون المبنى، مثل قيام حركته الإبداعية على أساس إدخال الشعر القصصي والتصويري للأدب العربي، فهذان الضربان يخلو منهما في الأصل الشعر العربي القديم، كما يخلو منهما الشعر الإتباعي الحديث، باستثناء شعر شاعر الأرز شبلي الملاط. وقصص مطران الشعرية هي صور من الحياة البشرية بعضها واقعي ومحتمل الوقوع يلوّنها خياله الخلاّق، وهو في هذا الشعر يراعي القصة من عرض وعقدة وحل، ويتقيد بها في أكثر الأحيان، كما أنه في هذا الشعر يؤمن بالفضيلة ويدعو إليها وينزع نحو التعليم والتهذيب. من أشهر قصائده: المساء، موت عزيز، الأسد الباكي، وفاء، الجنين الشهيد، المنتحر، الطفل الظاهر، نيرون، فتاة الجبل الأسود، شيخ أثينة، بين القلب والدمع، الزنبقة وغيرها الكثير من القصائد المميزة لمطران. ومن قصيدة المساء يقول مطران: دَاءٌ أَلَمَّ فخِلْتُ فيهِ شِفَائي من صَبْوَتي، فتَضَاعَفَتْ بُرَحَائي يَا لَلضَّعيفَينِ! اسْتَبَدَّا بي ومَا في الظُّلْمِ مثلُ تَحَكُّمِ الضُّعَفَاءِ قَلْبٌ أَذَابَتْهُ الصَّبَابَةُ وَالجَوَى وَغِلاَلَةٌ رَثَّتْ مِنَ الأَدْوَاءِ وَالرُّوحُ بَيْنَهُمَا نَسِيمُ تَنَهُّد في حَالَيِ التَّصْوِيبِ وَالصُّعَدَاءِ وَالعَقْلُ كَالمِصْبَاحِ يَغْشَى نُورَ هُ كَدَرِي، وَيُضْعِفُهُ نُضُوبُ دِمَائي هذا الذي أَبْقَيْتِهِ يَا مُنْيَتِي مِنْ أَضْلُعِي وَحُشَاشَتِي وَذَكَائي عُمْرَيْنِ فِيكِ أَضَعْتُ، لَوْ أَنْصَفْتِني لَمْ يَجْدُرَا بتَأَسُّفِي وَبُكَائي عُمْرَ الفَتَى الفَانِي، وَعُمْرَ مُخَلَّدٍ ببَيَانِهِ، لَوْلاَكِ، في الأَحْيَاءِ فَغَدَوْتُ لَمْ أَنْعَمْ، كَذِي جَهْلٍ،وَلَمْ أَغْنَمْ، كَذِي عَقْلٍ، ضَمَانَ بَقَائي إِنِّي أَقَمْتُ عَلَى التَّعِلَّةِ بالمُنَى في غُرْبَةٍ قَالُوا: تَكُونُ دَوَائي إِنْ يَشْفِ هَذَا الجسْمَ طِيبُ هَوَائِهَا أَيُلَطِّفُ النِّيرَانَ طِيبُ هَوَاءِ ؟ أَوْ يُمْسِكِ الحَوْبَاءَ حُسْنُ مُقَامِهَا هَلْ مَسْكَةٌ في البُعْدِ لِلْحَوْبَاءِ ؟ عَبَثٌ طَوَافِي في البلاَدِ، وَعِلَّةٌ .في عِلَّةٍ مَنْفَايَ لاسْتِشْفَاءِ مُتَفَرِّدٌ بصَبَابَتي، مُتَفَرِّدٌ بكَآبَتي، مُتَفَرِّدٌ بعَنَائِي شَاكٍ إِلَى البَحْرِ اضْطِرَابَ خَوَاطِرِي فَيُجيبُني برِيَاحِهِ الهَوْجَاءِ ثَاوٍ عَلَى صَخْرٍ أَصَمََّ، وَلَيْتَ لي قَلْبًَا كَهَذِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ ! يَنْتَابُهَا مَوْجٌ كَمَوْجِ مَكَارِهِي وَيَفتُّهَا كَالسُّقْمِ في أَعْضَائي وَالبَحْرُ خَفَّاقُ الجَوَانِبِ ضَائِقٌ كَمَدًَا كَصَدْرِي سَاعَةَ الإمْسَاءِ تَغْشَى البَرِيَّةَ كُدْرَةٌ، وَكَأَنَّهَا صَعِدَتْ إلَى عَيْنَيَّ مِنْ أَحْشَائي وَالأُفْقُ مُعْتَكِرٌ قَرِيحٌ جَفْنُهُ يُغْضِي عَلَى الغَمَرَاتِ وَالأَقْذَاءِ يَا لَلْغُرُوبِ وَمَا بهِ مِنْ عِبْرَةٍ لِلْمُسْتَهَامِ! وَعِبْرَةٍ لِلرَّائي! أَوَلَيْسَ نَزْعًَا لِلنَّهَارِ، وَصَرْعَةً لِلشَّمْسِ بَيْنَ مَآتِمِ الأَضْوَاءِ ؟ أَوَلَيْسَ طَمْسًَا لِلْيَقِينِ، وَمَبْعَثًَا لِلشَّكِّ بَيْنَ غَلائِلِ الظّلْمَاءِ ؟ أَوَلَيْسَ مَحْوًَا لِلوُجُودِ إلَى مَدَىً وَإِبَادَةً لِمَعَالِمِ الأَشْيَاءِ؟ حَتَّى يَكُونَ النُّورُ تَجْدِيدًَا لَهَا وَيَكُونَ شِبْهَ البَعْثِ عَوْدُ ذُكَاءِ وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالنَّهَارُ مُوَدِّعٌ وَالقَلْبُ بَيْنَ مَهَابَةٍ وَرَجَاءِ وَخَوَاطِرِي تَبْدُو تُجَاهَ نَوَاظِرِي كَلْمَى كَدَامِيَةِ السَّحَابِ إزَائي وَالدَّمْعُ مِنْ جَفْني يَسِيلُ مُشَعْشَعًَا بسَنَى الشُّعَاعِ الغَارِبِ المُتَرَائي وَالشَّمْسُ في شَفَقٍ يَسِيلُ نُضَارُهُ فَوْقَ العَقِيقِ عَلَى ذُرَىً سَوْدَاء مَرَّتْ خِلاَلَ غَمَامَتَيْنِ تَحَدُّرًَا وَتَقَطَّرَتْ كَالدَّمْعَةِ الحَمْرَاءِ فَكَأَنَّ آخِرَ دَمْعَةٍ لِلْكَوْن ِ قَدْ مُزِجَتْ بآخِرِ أَدْمُعِي لرِثَائي وَكَأَنَّني آنَسْتُ يَوْمِي زَائِلًا فَرَأَيْتُ في المِرْآةِ كَيْفَ مَسَائي