تقول فروغ فرخزاد: "أؤمن بأنَّ قلبَ الإنسان هو الكهفُ الأعمقُ في العالم." ربما يكون كهفًا للحزن.. لا أعرف إن كان الحزن شكلًا من أشكال الحرية، لكنني أعرف جيدًا أنني منذ بدأت أكتب هذه اليوميات، صرت أستيقظ كأنني أنهض من تحت أنقاض لا يراها أحد. أنا لست تحت الركام، جسديًا، ولا أسمع أصوات الطائرات، ولا أحصي الشهداء على أصابعي، لكن ثمة شيء في رأسي ينهار كل صباح. كأن أحدهم يهمس لي قبل أن أفتح عينيّ: "من بقي؟ من نجا؟ من كُتبَ اليوم اسمه بالدم؟" اليوم، نظرتُ إلى إحدى لوحاتي القديمة، لوحة بلا عنوان، رسمتُها منذ سنوات، حين كنت أعيش حياة رمادية لا يحدث فيها شيء سوى البرد والعتمة. في اللوحة، ثمة جسر حجري يعبر فوقه رجلٌ بقميص أزرق. رجل لا ملامح له، فقط كتفان منكسران، وقبعة داكنة تخفي وجهه. كنت أظنه أنا. لكني حين نظرتُ إليه اليوم، أدركت أنه ليس شخصًا، بل فكرة: العبور من الضفة التي كنا فيها، إلى الضفة التي خسرنا كل شيء فيها. لم أعد أؤمن بأن اللوحات تحكي حكايات. اللوحات، عندنا، تُكمل ما عجزنا عن قوله. جاءني اتصال من زميل قديم. نحات، يعيش في الخارج منذ عقد. سألني: "هل ما زلت ترسم رغم هذا كلّه؟" قلت: "بل بسبب هذا كلّه." ثم صمتَ طويلًا. قال بعدها: "أنا أعلّق رأسي كل مساء على جدار، وأرسم الخوف." قلت له: "وأنا أعلّق قلبي على مسمار، وأرسم ما تبقى منه." نحن جيل يتبادل الأدوات بدلًا من الإنجازات. جيل يكتب على الجدران، لا في الكتب. يرسم ليحيا، لا ليعرض لوحاته. في المقهى، جلستُ في الزاوية التي اعتدتُها. ثمة رجل يقرأ الجريدة بصمت، وامرأة تكتب شيئًا في دفتر صغير، تنظر لي وتبتسم بأسى. لكنّني لم أكن هناك. كنتُ في بيتٍ لم أره من قبل، يحترق. وفي كل نافذة، وجه خائف. وفي كل غرفة، صورة صغيرة معلقة على الحائط، لا تملك من الحياة إلا اسمًا. كلّ الأماكن التي أزورها، تحملني إلى بيوت أخرى. أمشي في شارع مضاء، فأسمع خطوات على الحصى في حلب القديمة. أشرب قهوتي، فأشمّ رائحة البارود من صحن الجنائن في بغداد. أنظر إلى وجه عابر، فأرى فيه فتىً من غزة مات وهو يحلم بحديقة. عدتُ إلى المرسم. حدثتني صديقتي طويلا، لكني لم أكن في مزاج جيد، قالت: عليك أن تتوقف قليلا عن متابعة هذا العالم، لتهدأ قليلًا. أرسلت لي مقطوعات موسيقية على آلة الهارمونيكا. أغلقتُ الهاتف وأطفأتُ الأنوار. ثم جلستُ على الأرض، كما أفعل كل مرة حين لا أطيق رؤية اللوحات. كتبت على الحائط بجانب الباب: "هل يمكن لفنان أن ينجو من العالم، إن لم يكن شاهدًا عليه؟" ثم أضفت: "وهل يكفي أن نرسم الحريق، إن كنا لا نملك ماء؟" اليوم لم أرسم. لم أفتح علبة الألوان، ولا أمسكت الفحم، ولا قصصت ورقًا، ولا رفعت فرشاة. اليوم فقط، وقفتُ أمام مرآتي، ومررتُ إصبعي على وجهي، وسألتُه: هل ما زلت هنا؟ أم أنّك، مثل كل شيءٍ آخر، تحوّلتَ إلى ظلٍّ على جدارٍ قُصف قبل أن يُفرغ ما في قلبه؟