تحرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وإدارته بسرعة كبيرة منذ عودته إلى السلطة في العشرين من شهر يناير الماضي، حيث اتخذ إجراءات وقرارات اتسمت في ظاهرها بالتناقضات، وكسر القواعد، والتسرع الواضح، ما قد يعطي انطباعا لدى إدارته. وذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن من ينظر إلى إجراءات إدارة ترامب على أنها مجرد مزيج غير مترابط من الإجراءات التي تعكس الأهواء الشخصية لرئيس "متقلب المزاج"، فإنهم يغفلون عن الصورة الأكبر لرؤية هذه الإدارة. وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن ترامب وفريقه يسعون إلى تحقيق رؤية شاملة قائمة على أربعة مشاريع رئيسية مترابطة، وهي" مشروع اجتماعي ثقافي، ومشروع اقتصادي، ومشروع سياسي داخلي، ومشروع في السياسة الخارجية". لافتة إلى أنه لفهم الوجهة التي يسعى ترامب إلى إيصال الولاياتالمتحدة إليها، من الضروري فهم كل مشروع من هذه المشاريع على حده. وبالنسبة للمشروع الأول (الاجتماعي والثقافي)، فإن ترامب يسعى إلى جعل المجتمع الأمريكي محافظا أكثر وبشكل جذري في جوانب متعددة، حيث تتبنى إدارته ما يُسمى بالقيم الاجتماعية التقليدية، وإعطاء الدين مكانة أكبر في الحياة العامة. وتشكل هذه القيم القضايا التي تتصدر الأجندة الاجتماعية والثقافية لإدارة ترامب، حيث تهدف، سياسات الهجرة "الأرض المحروقة"، على سبيل المثال، إلى تعزيز القانون والنظام، والحد من قلق أصحاب البشرة البيضاء، وتقليل المنافسة الوظيفية للأمريكيين من الطبقة العاملة. كما تسعى الإدارة إلى مجموعة من التغييرات في السياسات الاجتماعية، مستمدة إما من رؤى الحرب الثقافية التقليدية أو من شعبوية "جعل أمريكا عظيمة مجددا"، وهي التغييرات التي تشمل تخفيف قيود تنظيم الأسلحة، وتقييد الوصول إلى الإجهاض وتنظيم النسل، وإعطاء الأولوية للقيم المسيحية في الحياة العامة، وزيادة خيارات التعليم، وتقليص صلاحيات وزارة التعليم، وإعادة صياغة السياسات المتعلقة بالمتحولين جنسيا، ومهاجمة الإجماع الطبي بشأن لقاحات الأطفال، وذلك من بين سياسات أخرى. وبالنسبة للمشروع الثاني (الاقتصاد)، فإن ترامب وفريقه يسعون إلى إعادة تشكيل الاقتصاد الأمريكي، ويؤكدون على عناصر رئيسية تتمثل في خفض الضرائب، وتخفيف اللوائح التنظيمية، وزيادة إنتاج الطاقة، خاصة باستخدام الوقود الأحفوري. ورغم أن هذه التوجهات تحاكي نهج الإدارات الجمهورية السابقة، إلا أن فريق ترامب يمضي بها إلى أبعد من ذلك بكثير. كما أضافت إدارة ترامب إلى الأولويات الاقتصادية المحافظة المألوفة، هدفا يتمثل في إعادة تشكيل الاقتصاد الأمريكي نحو مزيد من التصنيع المحلي، وهو الهدف الذي يسعى ترامب لتحقيقه عبر فرض الرسوم الجمركية، التي يستخدمها كوسيلة لمعاقبة الدول الأخرى على ما يعتقد أنها سياسات تجارية معادية للولايات المتحدة، ولمنحه نفوذا يستخدمه في مجالات أخرى. أما المشروع الثالث (نظام سياسي داخلي جديد)، فإن ترامب وفريقه يسعون –وفقا للمجلة الأمريكية- إلى إعادة هيكلة النظام السياسي الأمريكي بحيث يتحكم الرئيس بشكل مطلق في السلطة التنفيذية التي تسيطر بدورها على جميع أجزاء السلطة التنفيذية والحكومية الأخرى، ويكون الرئيس في هذا النظام قادرا على قمع الانتقادات والتحديات الداخلية، أو على الأقل الحد منها بشكل كبير. وخلال سعيه لتحقيق هذه الرؤية الرئاسية المفرطة للسلطة التنفيذية، عزز ترامب سلطته على الوكالات المستقلة، واتخذ خطوات لكسب سيطرة سياسية أكبر على الخدمة المدنية، ومنح وزير العدل صلاحية قيادة عملية إضعاف واستنزاف البيروقراطية الفيدرالية. كما يعزز ترامب –في رأي "فورين بوليسي"- التحزب في العلاقات المدنية العسكرية. ويسعى كذلك إلى تشديد السيطرة على رؤساء الوكالات الفيدرالية، حيث عين أشخاصا يفتقرون إلى السلطة المهنية اللازمة للمناصب التي يشغلونها، وعين أيضا مراقبين على رؤساء هذه الوكالات يتسمون بالولاء له لضمان تنفيذ أوامره. وترى المجلة الأمريكية أن ترامب سعى أيضا إلى الحد من قدرة المحاكم والكونجرس على تقييد سلطته. كما تسعى إدارته إلى تقييد سلطة إدارات الولايات والحكومات المحلية، عبر التهديد بحجب التمويل عن ولايات ومناطق محددة لجعلها متوافقة مع إملاءات السياسة الفيدرالية، مثل إنفاذ سياسة الهجرة. وتعمل إدارة ترامب كذلك على كبح جماح المعارضة من خلال الطعون القانونية، والتهديدات المالية، والهجمات الخطابية على الجهات السياسية والمدنية الفاعلة. ويشمل ما سبق الانتقام من المحامين المرتبطين بإجراءات قانونية سابقة ضد ترامب، والهجمات على وسائل الإعلام المستقلة، وتحقيقات وزارة العدل في نشاط الجماعات السياسية المعارضة للإدارة، والهجوم على الجامعات والمؤسسات المدنية الأخرى التي يُنظر إليها على أنها لا تتبع رغبات الإدارة المتعلقة بالتنوع والإنصاف والشمول وقضايا أخرى. وبالنسبة للمشروع الرابع المتعلق بالسياسة الخارجية، فإن ترامب وفريقه يغيرون السياسة الخارجية الأمريكية تحت شعار "أمريكا أولا". وينطلقون من قناعة ترامب بأن الولاياتالمتحدة لطالما قدمت مصالح الدول الأخرى على مصالحها، وعانت من الاستغلال وسوء المعاملة من الآخرين. ويتمثل جوهر هذا المشروع في انسحاب الولاياتالمتحدة من دورها كضامن للأمن الدولي القائم على القواعد والنظام الاقتصادي، والسعي بدلا من ذلك إلى صفقات تفيد الولاياتالمتحدة مباشرة، مع التركيز على الإكراه أكثر من التعاون، وعلى المصالح الوطنية المباشرة بدلا من القيم الدولية الأوسع. وعلى الصعيد الأمني، يعني هذا المشروع تقليص الضمانات والالتزامات الأمنية الأمريكية، ونقل أعباء الدفاع إلى الدول الشريكة. وفي هذا الصدد، ترى "فورين بوليسي" أن سعي إدارة ترامب إلى سلام تفاوضيٍ بين روسيا وأوكرانيا، والتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، ليست سوى وسيلة لتحقيق طموح ترامب في أن يكون صانع سلام عالمي. ونوهت المجلة إلى أن إدارة ترامب توظف أجندة "أمريكا أولا" على الصعيد الاقتصادي في إطار هذا المشروع، عبر استخدام الرسوم الجمركية وأشكال أخرى من الضغط الاقتصادي أو الدبلوماسي لإجبار الدول الأخرى على خفض الرسوم الجمركية على السلع الأمريكية، وشراء المزيد منها، وخاصة الغاز الطبيعي والنفط، مع تعظيم وصول الولاياتالمتحدة إلى الاحتياطيات العالمية من المعادن الاستراتيجية، والتوقف إلى حد كبير عن تقديم مساعدات التنمية الاقتصادية للدول الأخرى. وبناء على ما سبق، فيتضح –وفقا لفورين بوليسي- أن إدارة ترامب لديها رؤية موحدة وشاملة، حيث ترى الإدارة أن المشاريع الأربعة يعزز بعضها بعضا. فتحويل الاقتصاد الأمريكي نحو تعزيز التصنيع المحلي يسير جنبا إلى جنب مع إعادة ضبط الوضع الاقتصادي الدولي للولايات المتحدة. كما أن إنشاء سلطة تنفيذية مطلقة الصلاحيات وغير مقيدة ليس مجرد هدف ومسعى شخصي لترامب فقط، بل أيضا أمر أساسي لفرض تغييرات اجتماعية وثقافية صارمة، تدعمه في مساعيه نحو تحقيق سياسة خارجية صارمة، يتمكن من خلالها وفق اعتقاده على "إدارة البلاد والعالم". ونبهت المجلة الأمريكية إلى أنه رغم الرؤية الموحدة للمشاريع الأربعة، إلا أنه من المؤكد أن التناقضات والتوترات واضحة في كل مشروع من هذه المشاريع. فعلى الصعيد الاقتصادي، على سبيل المثال، هناك تضارب حاد بين هدف إنشاء اقتصاد داعم للأعمال والاستخدام المفرط للرسوم الجمركية. وفي مجال السياسة الخارجية، تتعارض الرغبة في تقليص الالتزامات الأمنية الأمريكية مع رغبة ترامب في التوسع الإقليمي. ورغم هذه التناقضات، إلا أن هناك توافقا أساسيا بين المجموعة العاملة في إدارة ترامب حول الرؤية العامة التي تمثلها هذه المشاريع الأربعة، بما يكفي للمضي قدما فيها. وعليه، فإن نجاح هذه المشاريع والإجراءات ذات الصلة تمثل أعمق محاولة حتى الآن لإعادة تشكيل الولاياتالمتحدة وهويتها الدولية في الذاكرة الحية.