لطالما كانت الضمانات الأمنية الأمريكية حجر الأساس في استقرار النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، لكن التحولات الأخيرة في السياسات الأمريكية، خاصة بعد عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض، تثير تساؤلات جوهرية حول مصير هذه الالتزامات، وهل يمكن أن تتحول وعود الحماية إلى حوافز خفية تدفع الحلفاء نحو امتلاك أسلحة نووية؟ وفقًا لمجلة «فورين بوليسي» لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية، لم تكن دعوات الحلفاء للتفكير في امتلاك ترسانات نووية وليدة اللحظة، بل تعود جذورها إلى عقود ماضية من التوترات الجيوسياسية. غير أن المتغير الأبرز اليوم هو تراجع الثقة في المظلة النووية الأمريكية، لا سيما في ظل سياسات ترامب التي تتسم بالنزعة الانعزالية من جهة، والرغبة في إعادة تعريف مفهوم الشراكات الأمنية من جهة أخرى. اقرأ أيضًا| «شيكاغو تريبيون» تهاجم الرسوم الجمركية الأمريكية: تعود للقرن السادس عشر وبينما تعيد دول مثل بولندا وألمانيا وكوريا الجنوبية النظر في خياراتها الاستراتيجية، فإن للتاريخ دلائل لافتة لما قد يحدث عندما يبدأ الحلفاء في الشك بفعالية مظلة الأمن الجماعي. ففي سبعينيات القرن الماضي، أدت سياسة "دبلوماسية فك الارتباط" التي انتهجها الرئيس الاسبق، ريتشارد نيكسون إلى دفع بعض حلفاء الولاياتالمتحدة نحو التفكير بتطوير قدرات نووية خاصة بهم، وهي ظاهرة تتكرر اليوم في ظل تغيّرات الأولويات الأمريكية. ورغم أن إدارة ترامب لم تُقدم على خطوات مباشرة لإلغاء الضمانات النووية التي توفرها واشنطن، فإن تكرار الحديث عن ضرورة تقاسم الأعباء الأمنية، إلى جانب تهديدات بتقليص الالتزامات الدفاعية، يُمكن أن يُنتج مناخًا جديدًا يعيد رسم ملامح سباق التسلح النووي بطريقة غير مسبوقة. وبحسب مجلة «فورين بوليسي»، فعند دراسة الانتشار النووي اليوم، يمكن استخلاص دروس مهمة من تجربة إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون، فقد كان لنهجه تداعيات مزدوجة: فمن ناحية، دفعت سياساته بعض الحلفاء إلى التفكير بجدية في امتلاك أسلحة نووية، لكن من ناحية أخرى، تمكنت الإدارات الأمريكية اللاحقة من احتواء هذا التوجه قبل أن يتحول إلى واقع خطير. انسحاب أمريكي وانفتاح على الصين في 25 يوليو 1969، أعلن نيكسون أن الولاياتالمتحدة لن تتحمل مسؤولية الدفاع التقليدي عن حلفائها الآسيويين بالشكل الذي اعتادت عليه، وعُرف هذا التصريح لاحقًا باسم مبدأ نيكسون، ولم يكن مجرد خطاب سياسي، بل سياسة عملية شملت تقليصًا واسعًا للوجود العسكري الأمريكي، فقد بدأ بسحب القوات من فيتنام، وقلّص عدد الجنود في كوريا الجنوبية، وسحب الأسلحة النووية والقوات الأمريكية من تايوان. لكن هذه السياسة لم تكن مجرد إجراءات تقشفية، بل جاءت ضمن رؤية أوسع تمثلت في فتح قنوات دبلوماسية مع الصين بقيادة رئيس جمهورية الصين الشعبية سابقًا، ماو تسي تونج. فيما رأى نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر أن تحسين العلاقات مع بكين حينها قد يُعيد تشكيل ميزان القوى العالمي، ويُجبر الاتحاد السوفيتي على تقديم تنازلات، ويُخفّض احتمالات نشوب حرب كبرى، مما يسمح لواشنطن بتخفيف التزاماتها الدفاعية المكلفة في آسيا. اقرأ أيضًا| ضربة اقتصادية مزدوجة.. الاتحاد الأوروبي يستعد لمعاقبة ترامب وشركات التكنولوجيا الكبرى قلق الحلفاء أثار هذا التحول قلق الحلفاء الآسيويين الذين شعروا بأن المظلة الأمنية الأمريكية قد لا تكون مضمونة كما كانت في السابق. فتايوان، التي كانت قد بدأت تطوير برنامج نووي بعد اختبار الصين لسلاحها النووي عام 1964، زادت من جهودها النووية في عهد نيكسون. ووفقًا لتقييم استخباراتي أمريكي عام 1972، بدأ قادة تايوان يتساءلون عن مدى قدرتهم على الاعتماد على واشنطن في المستقبل، ما دفعهم لرؤية الخيار النووي كضمانة أمنية مستقلة، بحسب مجلة «فورين بوليسي» لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية. أما كوريا الجنوبية، فقد اتبعت مسارًا مشابهًا، حيث دفعها التراجع الأمريكي إلى استكشاف برنامج نووي خاص بها. وأشار تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية عام 1978 إلى أن مبدأ نيكسون، إلى جانب التقارب الأمريكي مع الصين، أثار قلق سيول (عاصمة كوريا الجنوبية) وجعلها تبحث عن بدائل أمنية، بما في ذلك تطوير أسلحة نووية. احتواء انتشار الأسلحة النووية وفقًا لمجلة «فورين بوليسي»، كان على الإدارات الأمريكية التي تلت نيكسون التعامل مع هذا التوجه النووي لدى الحلفاء، فلم يُبدِ نيكسون اهتمامًا كبيرًا بمنع انتشار الأسلحة النووية، لكن إدارات رئيسا الولاياتالمتحدة سابقًا، جيرالد فورد وجيمي كارتر، مارست لاحقًا ضغوطًا قوية على تايوان، مهددة بقطع المساعدات العسكرية إن لم توقف برنامجها النووي. وعندما أعادت تايوان إحياء مشروعها السري في الثمانينيات، تدخلت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريجان بشكل صارم، مما أجبرها على التراجع مرة أخرى. أما كوريا الجنوبية، تشابه تجربتها مع برنامجها النووي تلك التي خاضتها تايوان، ففي منتصف السبعينيات، واجهت إدارة الرئيس جيرالد فورد سيول بضغط دبلوماسي مكثف، محذّرةً إياها من أن مواصلة برنامجها النووي قد تُعرّض علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن للخطر، ليس فقط على المستوى النووي والعلمي المدني، بل أيضًا في الجوانب السياسية والأمنية الأوسع. وفقًا لبرقية دبلوماسية صادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية عام 1975، سألت واشنطن المسؤولين الكوريين الجنوبيين صراحةً عما إذا كانوا مُستعدين للمُخاطرة بهذه الشراكة الحيوية. استجابت كوريا الجنوبية لهذه الضغوط عبر الحد من طموحاتها النووية، لكنها لم تتخلَّ عنها تمامًا، وعندما أعلنت إدارة الرئيس جيمي كارتر لاحقًا عن خطط لسحب القوات البرية الأمريكية من شبه الجزيرة الكورية، عاد الحديث في سيول مجددًا حول ضرورة امتلاك أسلحة نووية كضمانة أمنية. وفي النهاية، تراجع كارتر، عن قرار سحب القوات، إلا أن إنهاء كوريا الجنوبية نهائيًا لبرنامجها النووي لم يحدث إلا في ظل إدارة الرئيس رونالد ريجان، التي أكدت بقوة التزام الولاياتالمتحدة بأمن سيول. اقرأ أيضًا| المظلة النووية الأوروبية تترنح بين النفوذ الفرنسي والاعتماد البريطاني على واشنطن انعكاسات على الانتشار النووي اليوم يُشير التاريخ إلى أن أي تحولات مفاجئة في التزامات واشنطن تجاه حلفائها قد تدفع بعضهم إلى إعادة النظر في الخيار النووي، على سبيل المثال، إذا سعى الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الثانية إلى تقليص الالتزامات الأمريكية ضمن التحالفات الدولية، كما أبدى رغبته سابقًا، فمن المحتمل أن تبدأ بعض الدول الحليفة في التفكير جديًا بامتلاك قدرات نووية. وسيعتمد ذلك إلى حد كبير على نطاق وطبيعة التحالفات التي تنسحب منها واشنطن، وبينما ينصبّ التركيز حاليًا على أوروبا، فإن العلاقات بين إدارة ترامب وكوريا الجنوبية كانت متوترة أيضًا خلال فترته الأولى. مقارنة بين سياسات ترامب ونيكسون بحسب مجلة «فورين بوليسي» لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية، قد يرى البعض أن الوضع اليوم أكثر خطورة مما كان عليه في سبعينيات القرن الماضي، صحيح أن كلًا من نيكسون وترامب بنيا سمعتهما على كونهما شخصيتين غير متوقعتين، إلا أن نيكسون استخدم هذا الأسلوب التكتيكي بشكل أساسي تجاه الخصوم، بينما طبّقه ترامب في جميع الاتجاهات، بما في ذلك مع الحلفاء. وهذا من شأنه أن يُثير قلق شركاء الولاياتالمتحدة اليوم أكثر مما كان عليه الحال في عهد نيكسون. قيود الانتشار النووي والردع الأمريكي رغم هذه التحديات، فإن نظام منع الانتشار النووي اليوم أكثر قوة مما كان عليه قبل خمسين عامًا، مما يجعل من الصعب على أي دولة حليفة لواشنطن المضي قدمًا في تطوير أسلحة نووية دون مواجهة تداعيات خطيرة. وقد تلجأ إدارة ترامب، حتى مع تقليص التزاماتها الأمنية، إلى منع انتشار الأسلحة النووية بين حلفائها عبر استخدام أدوات النفوذ الاقتصادي ودورها كمورد رئيسي للأسلحة – وهو الأسلوب الذي استخدمته واشنطن سابقًا مع تايوان. لكن في الوقت نفسه، فإن عدم القدرة على التنبؤ بقرارات ترامب قد يدفع الحلفاء إلى التفكير في خياراتهم النووية، فيما يثير لديهم أيضًا مخاوف بشأن كيفية تفاعل واشنطن معهم إذا أقدموا على هذه الخطوة. استراتيجيات التحوط النووي والردع البديل قد تدفع هذه المخاطر الدول الحليفة للولايات المتحدة، التي تمتلك طموحات نووية، إلى اتباع استراتيجيات تحوّط نووي بدلًا من السعي المباشر لتطوير الأسلحة. ويعني ذلك تطوير بنية تحتية نووية وتقنية متقدمة تُتيح لها القدرة على بناء أسلحة نووية بسرعة إذا دعت الحاجة في المستقبل، دون تجاوز الخطوط الحمراء الدولية في الوقت الحالي. كما قد تتجه بعض الدول إلى البحث عن ترتيبات ردع بديلة، وهو ما يبدو أن بعض أعضاء حلف شمال الأطلسي «الناتو»، يستكشفونه حاليًا من خلال تعميق التعاون النووي مع فرنسا والمملكة المتحدة. وإذا قررت إدارة ترامب تبنّي موقف أكثر تساهلًا تجاه امتلاك الحلفاء ل أسلحة نووية - كما ألمح ترامب خلال حملته الانتخابية عام 2016 - أو إذا انسحبت واشنطن بالكامل من بعض التحالفات الأمنية، فقد يشهد العالم اندفاعًا من بعض شركاء الولاياتالمتحدة، أو حتى حلفائها السابقين، نحو امتلاك قدرات نووية خاصة بهم. وفي هذا السيناريو، سيكون على الإدارات الأمريكية اللاحقة التعامل مع تداعيات هذا الانتشار، تمامًا كما وجدت الإدارات التي خلفت نيكسون نفسها مضطرة لإعادة ضبط المسار النووي لبعض الحلفاء قبل نصف قرن، بحسب مجلة «فورين بوليسي» لتحليل السياسة الخارجية الأمريكية. اقرأ أيضًا| «معهد ستوكهولم» يكشف مدى هيمنة الأسلحة الأمريكية على سوق الدفاع الأوروبي