تحل اليوم الليلة الكبرى لمولد السيدة نفيسة، ابنة الإمام الحسن الأنور بن زيد الأبلج ابن الإمام الحسن ابن الإمام على بن أبي طالب، حيث يأتيها الآلاف من كل حدب وصوب محتفلين بواحدة من نساء آل البيت، وعبق من رائحة التابعين. ولدت السيدة نفيسة في مكةالمكرمة سنة 145 ه في الحادي عشر من ربيع الأول، فرحت بها أمها زينب بنت الحسن واستبشر بها أبوها، ويقال إن أبوها كان يأخذها وهي صغير لزياره جدهم المصطفى (صلى الله عليه وسلم) ويقول إنى راض على ابنتي نفيسة فجاءه الرسول في المنام وقال له إنى راض على ابنتك نفيسة برضائك عليها وإن الله راض عنها برضائها علي. نشأت في مكة، حتى صحبها أبوها مع أمها إلى المدينةالمنورة؛ فكانت تذهب إلى المسجد النبوي وتسمع إلى شيوخه، وتتلقى الحديث والفقه من علمائه، حتى لقبها الناس بلقب (نفيسة العلم) قبل أن تصل لسن الزواج، حتى بلغت مبالغ النساء. وعاشت في المدينة لا تفارق الحرم النبوي، قارئة ذاكرة وحجت أكثر من ثلاثين حجة أكثرها ماشية. تزوجت من إسحاق بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي، وكان يدعى (إسحاق المؤتمن). تقدم إليها الخطاب من السلالة النبوية الشريفة من بني الحسن والحسين، كما تقدم لخطبتها الكثير من أشراف قريش وغيرهم لما عرفوه من كمالها وصلاحها. كان أبوها يأبى إجابة طلبهم ويردهم ردًا جميلًا حتى جاء إسحاق المؤتمن ابن الإمام جعفر الصادق يخطبها من أبيها، فصمت ولم يرد جوابًا، فقام إسحاق من عنده، وتوجه إلى الحجرة النبوية الشريفة، وخاطب جده - بعد الصلاة والسلام عليه- وشكا إليه همومه ورغبته في الزواج من السيدة نفيسة لدينها وعبادتها، ثم خرج، فرأى والدها في المنام تلك الليلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: "يا حسن! زوّج نفيسة من إسحاق المؤتمن"، فزوجه إياها في بيت أبيه في شهر رجب سنة 161 ه. وكان مشهودا لإسحاق بالصلاح، وقد أخذ عن أبيه الكثير من علومه وآدابه وأخلاقه، حتى أصبح له شأن ومقام. وبزواجهما أنجبت لإسحاق ولدًا وبنتًا هما القاسم وأم كلثوم. لم تكشف كتب التاريخ الدوافع التي أدت إلى قدوم السيدة نفيسة مع زوجها إلى مصر؛ هل كانت دوافع سياسية ناتجة من الضغوط التي كان يواجهها آل البيت من قبل القوى الحاكمة أم ماذا؟ كان والد السيدة نفيسة واليًا على المدينة من قبل أبي جعفر المنصور ثم غضب عليه وعزله ومن ثم رحلت معه وزوجها إلى مصر أم أن هناك دوافع أخرى، وقد أجمع المؤرخون على أنها وصلت مصر مع زوجها أو أبيها أو كليهما. يحكي أن أهالي مصر شُغفوا حبًّا بالسيدة نفيسة، واستعدوا لاستقبالها عندما علموا أنها في الطريق إلى مصر، فخرج لاستقبالها أهالي الفسطاط (القاهرة) وأعيانها في العريش. وكانت تدعو الله قائلة: "إلهي يسّر لي زيارة قبر خليلك إبراهيم" فاستجاب الله لها، وزارت هي وزوجها "إسحاق المؤتمن" قبر الخليل. ثم رحلا إلى مصر في رمضان عام 193 هجرية في عهد هارون الرشيد، وفي العريش- بأقصى شمال مصر الشرقي- استقبلها أهل مصر بالتكبير والتهليل وخرجت الهوادج والخيول تحوطها وزوجها، حتى نزلا بدار كبير التجار وقتها (جمال الدين عبد الله الجصاص). وصلت السيدة نفيسة إلى القاهرة يوم السبت 26 رمضان 193 هجرية قبل أن يأتي إليها الإمام الشافعي بخمس سنوات، ونزلت بدار سيدة من المصريين تُدعى "أم هانئ"؛ وكانت دارًا واسعة، فأقبل عليها الناس يلتمسون منها العلم، حتى ازدحم وقتها، وكادت تنشغل عما اعتادت عليه من العبادات. فخرجت على الناس قائلة: "إني كنت قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى" ففزع الناس لقولها، ورفضوا رحيلها، حتى تدخَّل الوالي السري بن الحكم وقال لها: "يا ابنة رسول الله، إني كفيل بإزالة ما تشكين منه" ووهبها دارًا واسعة، ثم حدد يومين في الأسبوع يزورها الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة، لتتفرغ هي للعبادة بقية الأسبوع فرضيت وبقيت. وكان لأخيها يحيى (المتوّج) بنت واحدة اسمها (زينب) انقطعت لخدمة عمتها، تقول: (لقد خدمت عمتي نفيسة أربعين سنة، فما رأيتها نامت بليل أو أفطرت بنهار، إلا في العيد وأيام التشريق) وتقول: (كانت عمتي تحفظ القرآن وتفسّره وتقرأه وتبكي) وهكذا عاشت في مصر معزّزة مكرّمة، ينتهل من نمير علومها أهالي مصر. وكانت مثال الحديث: (عاشروا الناس معاشرة أن عشتم حنّوا إليكم، وأن متّم بكوا عليكم)، وهكذا ما أن حلّ عام 208 ه-ولم تكد تدخل سنتها الرابعة والستين-حتى أحست بدنو أجلها، فكتبت إلى زوجها تطلب حضوره. وكانت السيدة نفيسة صائمة كعادتها، فألحوا عليها أن تفطر رفقًا بها، فرفضت وقالت (اصرفوا عنى طبيبي ودعوني وحبيبي.. زادني شوقي إليه وغرامي ونحيبى) فانصرف الأطباء، وقد شدّهم الإعجاب بقوة يقينها وثبات دينها، فسألوها الدعاء، فقالت لهم خيرًا ودعت لهم. وشاءت السيدة نفيسة أن تختم حياتها بتلاوة القرآن وبينما كانت تتلو سورة الأنعام، حتى إذا بلغت آية: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) الأنعام/ 127 غشي عليها. تقول زينب- بنت أخيها- فضممتها إلى صدري، فتشهدت شهادة الحق، وصعدت روحها إلى باريها في السماء. ولما فاضت روحها أراد زوجها أن ينقلها إلى البقيع عند جدها عليه الصلاة والسلام ولكن أهل مصر تمسكوا بها وطلبوا منه أن يدفنها عندهم فأبى ولكنه رأى في منامه الرسول يأمر بذلك فدفنها في قبرها الذي حفرته بنفسها في مصر. وحول قبرها، يحتفل المصريون كعادتهم كل عام بليلتها، في هذا العام الذي سيحييها فيه الشيخ ياسين التهامي بمواويله ومديحه لآل البيت.