كنت وحيدًا عندما قدمت إلى المحروسة، تركنى وقتها رفاق الرحلة، توجهوا جميعًا إلى دهاليز لا أعلمها بين جدران القاهرة، كانت الليلة الأولى مزيجًا من صقيع الشتاء، ويزيد صقيع الغربة الجسد مرارة أخرى، أتذكرها جيدًا.. منتصف الشهر الهجري، القمر في تمامه، يتكسر جفنى كلما حاولت النعاس على أحد الأرصفة، ولكن لا أنكر أنها جذبتنى «القاهرة» فأخذت أحدق في بُنيانها وهو يتلألأ تحت أضواء المصابيح الكاشفة، لا أدرى كم استغرقت من الوقت، وأنا في تلك الحالة، حتى سمعت صوتًا خفيفًا من خلفي، ويدا تربت على كتفي، رجلٌ هزيل.. يكاد أن يتخطفه الصقيع، لكن مازال ينبض وجهه بالحياة، مددت يدى وصافحته بعنفوان الشاب الصعيدى الذى قدم من الجنوب، لا يعرف عن القاهرة سوى أنها لا ترحم الغرباء، فما بالك لو كنت وقتها غريبًا وفقيرًا! بنبرة هادئة قال لي: تفضل معي! زاد الأمر تعقيدًا، وشعرت بأننى أحتاج أن تنشق الأرض وتضمني، وتعود بى إلى حيث أتيت.. ما بك يا «جوهري» من جعلك تفكر في أن تترك مهنة آبائك الأولين، أنت خُلقت «لتزرع وتقلع في الأرض»، أصبحت الآن محل عطفٍ لمن لا يعرفك! سأعود إلى بلدتي، لا ولكن ماذا سأقول لهم، فشلت في أولى رحلاتك! تحدث معه، ربما يكون ذلك العجوز دعوات أمك وقت الفجر... «أهلا إزيك ياحج.. أنا مش من هنا، غريب وقاصد وجه الله.. وكل اللى كانوا معايا ولاد العم والصحاب تاهوا أو سابوني».. توجه إليه السبعيني: «لا تقلق.. مررت بما تمر به أنت الآن منذ نصف قرن أو يزيد» تعال معي... اصطحب الرجل السبعينى عم «جوهري» واتجها نحو مقهى صغير... جلسا حول طاولة صغيرة، تبادلا الأحاديث، كنت أنا من الأقصر، وكان هو من أسيوط، ولكن جمعتنا اللهجة الصعيدية وسمار الوجه الذى لفحته مرارة الجنوب ممزوجة بحرارة الشمس. كنت على علم بسيط بالقراءة والكتابة، وعملت معه صبيًا، داخل محلٍ في شادر بمنطقة إمبابة، ولكن سرعان ما كنت على موعدٍ مع الألم، رحل عم «السعيد» بعد شهر من معرفتى به، وكان أولاده لا يحبون تجارة الفاكهة، فقاموا ببيع المحل، وعدت أنا مرة أخرى إلى الصراع داخل المحروسة، ولأنى أحب القاهرة رفضت أن أستسلم، وعملت في الشادر، كحامل للأقفاص، ويوما بعد يوم، اكتسبت الخبرة وجمعت المال، امتلكت محلا لبيع الفاكهة، بعد ثلاثين عاما من الكر والفر داخل الأسواق، وانتصرت أنا في النهاية فقط لأننى أحب القاهرة.