قبل أن يختتم معرض القاهرة الدولي للكتاب - في دورته الخامسة والأربعين - فعالياته الثقافية، كان للتاريخ الكلمة الأخيرة في البحث عن هويتنا المصرية، التي قاومت مستعمرين تعاقبوا على قلب الوطن عشرات السنين، ولم يستطيعوا النيل منه، وجماعات دينية حاولت - بشتى الطرق - نزع هذه الهوية عن بلادنا، فكانت الهوية هي المحرض على الثورة ضد حكمهم وأدخلتهم إلى السجون لتتنفس مصر وشعبها الحرية. "التاريخ والهوية المصرية"، هو عنوان الندوة التي أقيمت أمس الثلاثاء بالقاعة الرئيسية - مقر جناح ضيف الشرف - وأدارها الدكتور خلف الميري، وتحدث فيها الدكتور عبد الحليم نور الدين، أستاذ الآثار والتاريخ المصري القديم ومقرر لجنة الآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، والدكتورة زبيدة محمد عطا، العميد الأسبق لكلية الآداب جامعة حلوان. وقد رفض الدكتور عبد الحليم نور الدين، بعض المسلمات المغلوطة التي يستخدمها الناس في التعامل مع الهوية المصرية، وفند بالدليل أخطاء وقع فيها مؤرخون كبار أمثال "هيرودت"، الذي قال إن مصر هبة النيل، في حين أن نفس النيل يمر عبر دول إفريقية عديدة، انفردت بينهم مصر بحضارة قديمة شهد لها العالم ولا يزال، كما تناول بالبحث - والتعريف الدقيق - بعض الكلمات المتداولة مثل "فرعون"، واستخدامها بشكل لا يليق مع أصلها اللغوي، وكذا كلمة مصر التي أورد "نور الدين" منبتها الحقيقي في اللغة القديمة، وعدّد السمات المكونة والمتميزة للشخصية المصرية المتفردة، كما أكد "نور الدين" - في بداية حديثه خلال الندوة - أنه "في وقت الأزمات تظهر الكثير من المصطلحات، ويتم الترويج لها بشكل واسع، ونحن نحاول أن نحلّل هذه المصطلحات". وأضاف نور الدين: "لاحظت مؤخرًا الكثير من البرامج التليفزيونية التي تتحدث عن الشخصية المصرية، بينما يتكرر سؤال واحد في كل مرة نتعرض فيها للكلام حول الهوية: هل نحن عرب أم فراعنة؟، وأنا أقول إن هذا السؤال لا معنى له ولا جدوى من طرحه من الأساس"، ويتذكر "نور الدين" حين كان يدرس في جامعة "ليدن" الهولندية للحصول على درجة الدكتوراة، حيث يقول: "كان السؤال الذي يتم توجيهه إلىّ حين يعلمون أنني مصري: هل أنتم عرب أم فراعنة؟، ورغم كوني أعلم المغزى "الخبيث" من وراء السؤال كنت أجيب بأننا - كمصريين - تجمعنا مظلة اللغة العربية، ولكننا نتميز بخصوصيتنا". وعبر "نور الدين" عن استيائه من كلمة فراعنة التي تستخدم، ويتم الترويج لها كإشارة إلى الذين حكموا مصر بالقهر والظلم، وتابع أستاذ الآثار المصرية: "ذلك لأن كلمة الفرعون تعني القصر الذي يسكن أو يقيم فيه الحاكم الذي يحكم مصر، وإن لقّب به أحد حكام مصر في بعض الفترات، وهذا هو ليس محور الحديث، لأن السؤال الدائم هو: من نحن؟، وما هي سمات الشخصية المصرية في مراحلها المختلفة؟، وأنا أقول إن الهوية المصرية هي مجموعة السمات المكونة لفكر الشخص وفكر الأمة، وخصائص الشخص وخصائص الأمة، وفي ظل فترات الأزمات تتجلّى هذه السمات التي تشكل وتبرز هذه الهوية". وأضاف نور الدين: "رغم أنها تبدو مختلفة أو متباينة من حيث الثقافة، غير أنها تنصهر وقت الأزمات في بوتقة واحدة تشكل الشخصية المصرية، كما أن الجنس المصري له خصائص وعادات وتقاليد تختلف في أوقات معينة عن بلدان كثيرة، فنحن لسنا حاميين ذوي بشرة سوداء، ولسنا ساميين ذوي بشرة بيضاء، وإنما نحن وسط بينهما، وهذا من ضمن سماتنا". وقال رئيس المجلس الأعلى للآثار السابق: "عُرفت مصر بالعديد من المسمّيات من قبل، منها الأرض السوداء وأرض القطرين، وحوّرت إلى إيبكتس ثم إلى قبطي وإيجيبشين، التي تعبر عن مصريتنا، وهي كلمة يونيانية أصولها مصرية قديمة، وكان الملك يسمّى ملك الأرضين وسيد القطرين، وكانت لكل إقليم خصوصيته وكان هناك صراع وتداخل في الثقافات، وبالنظر إلى أصولنا وأصول كلمة مصر نجد أنها كانت في البداية تسمّى "مشر"، وهذا الاسم موجود في اللغة المصرية القديمة ومعناه المحصنة أو المكنونة، كما ورد ذكره في القران والتوراة، وقد حمى الله هذه البلاد بحدودها الطبيعية، وكان لا بد أن ينعكس هذا الأمان على المصري الذي بدأ يفكر في بناء الأمة من الداخل، هي محصنة لأن بها صحراء في الشرق وصحراء في الغرب ومن الشمال يحدها البحر المتوسط ومن الشرق يحدها البحر الأحمر، وهذه الحدود الطبيعية التي حماها بها الله هي التي جعلتها محصنة، إضافة إلى نهر النيل، وأنا هنا أختلف مع من يقول إن مصر هبة النيل، ولو أن مصر هبة النيل فلماذا لم تقم حضارة مثل الحضارة المصرية في باقي الدول التي يمر بها النهر العظيم، فهذا أبلغ دليل على أن مصر هبة المصريين، لأنهم هم من حرّكوا وصنعوا الحضارة المصرية، ورغم انبهار العديدين من المصريين بالأهرامات وضخامة بنائها وتصميم وحجم الأحجار، غير أنني منبهر بالإدارة، إدارة الموقع الذي يتم إنشاء الهرم به، ولذلك تبيّن الحضارة المصرية أن المصري القديم عرف جيدًا أهمية الإدارة، وكانت هذه المعرفة وراء قدرة المصريين على التعامل مع النيل وإيقاف جموحه وفيضانه، من خلال بناء السدود المختلفة، ولإدراكهم أنه لا يمكن قيام حضارة على مصدر مؤقت للمياه". وتابع نور الدين: "النيل ليس كلمة عربية أو إنجليزية، ولكنها يونانية على اسم الإله "نيلوس"، وقد وحوّر المصريون الكلمة وسمّوه "اتيروعا"، وحُرفّت إلى "يارو" وهي تعني النهر العظيم، والنهر معناه مصدر ثابت للمياه، والحضارة لا تقوم على مصدر مائي مؤقت، فاليمن لم يكن فيها مصدر ثابت وهو ما لا يشجّع على قيام حضارة متميزة، والنهر هو الذي جعل المصريين يؤمنون بحياة ما بعد الموت، من خلال الانحسار والفيضان للنيل وشروق الشمس وغروبها وسطوع القمر وأفوله، فقد كان النيل بمثابة المصدر الثابت لقيام هذه الحضارة، وهذا أكبر دليل على عبقرية الشخصية المصرية منذ القدم، ومن مكونات الهوية، الأرض، فليست لدينا وديان ثم جبال ضخمة كالعراق واليمن، وأرض مصر منبسطة وهو ما جعل الإنسان ينظر إلى الأفق نظرة متفائلة واثقة من نفسها"، وأكد أستاذ التاريخ المصري القديم، أن أرض مصر 95 % منها صحراء و5 % أرض صالحة للزراعة، وقد لعبت الأرض دورا مهمّاً في تهيئة الاستقرار، فالمصري أوقد نارا واستأنس الحيوان ثم عرف الزراعة وبدأ يبدع، أما المناخ فهو ليس متقلِّباً وليس شديد الحرارة والبرودة، ولكنه معتدل على امتداد فترة طويلة من العام، وهو ما جعل المصري يتعامل مع الحياة بشكل بسيط، فالمصري القديم عرف الكتابة وبرع في فنون الطب والنحت والرسم وغيرها، كما أن المصري القديم طبّق العدالة الاجتماعية على جميع أبناء الوطن، ففي عهد رمسيس الثالث رفع العمال لافتة مكتوب عليها "إن لم تعطونا أجورنا سنهجم على صوامع الغلال الملكية"، وبالفعل كانت ثورتهم على الحكومة، لأنها لم تفي بوعدها معهم، كما أننا ورثنا الكثير من المفردات الفرعونية، ولدينا أكثر من ستمائة مفردة عامية أصلها من لغة الأجداد، فلو لم يكن الأجداد على مستوى عالٍ من الحضارة ما ورث الأحفاد منهم شيئاً. وأضاف نور الدين: "هذه العوامل كانت تجعلنا نبتسم ونميل إلى المزاح ونرسم الكاريكاتير، وكان المصري لا يعرف للعنف أو العري مكانا، وحين كان الجيش يعود منتصرا يستقبلونه وهم يقولون: عاد الجيش في سلام دون أن يقتل مدنيا أو يقتلع شجرة". وأفاضت الدكتورة زبيدة عطا، العميد السبق لكلية الأداب جامعة حلوان - خلال الندوة - في الحديث عن الشخصية المصرية، التي عرفتها بأنها شخصية وسطية لا هي تميل إلى التراخي ولا هي تميل إلى الشدة، وأن الدين لعب دورًا كبيرًا في الشخصية المصرية، سواء كان في الفترة المسيحية أو الإسلامية، وترى أن ذاكرة المصري تحوي كل الثقافات السابقة بشكل تراكمي، وأكبر دليل على ذلك هوأننا نستخدم التقويم القبطي حتى الآن، وكما قال جمال حمدان "المصري يستوعب الأجنبي ويعطيه طبعة مصرية"، فمصر لها بعد متوسطي من خلال البحر المتوسط، ولها بعد إفريقي من خلال احتلالها لمقدمة هذه القارة، ولها بعد عربي من خلال آسيا، وقد ظهرت توجهات مختلفة لدى المثقفين المصريين الذين عادوا من الخارج متأثرين بالنهضة الأوروبية والفكر الغربي، ويريدون تشكيل الشخصية والهوية المصرية من خلال العلم والثقافة، وكان على رأسهم الدكتور أحمد لطفي السيد والدكتور طه حسين، وظهرت كتاباتهم بالدعوة إلى التطوّر والتقدم بما لا يفقد مصر شخصيتها العربية أو يتناقض مع ديانتها الإسلامية. وقالت الدكتورة زبيدة عطا: "ظهرت أيضا جماعات تدعو إلى تشكيل مصر من الناحية الوطنية العربية، وأنها لا بد أن تتجه وتنظر إلى العرب، وعلى هذا الأساس تم بناء جامعة الدول العربية في النصف الأول من القرن العشرين، وكان من رواد هذا الفكر: علوبة باشا، وعبد الرحمن عزام وهو أول أمين للجامعة العربية". وتابعت عميد آداب حلوان الأسبق: "البعض نادوا بالاتجاه القومي، وكان سلامة موسى يتجه إلى الفرعونية المصرية، كما ظهرت الحركة الإسلامية الممثّلة في الإخوان عام 1928 على يد حسن البنا، وهو الذي قال: ما لا يؤخذ بالقرآن يؤخذ بالسلطان"، وعلى هذا الأساس أنشأ الكشافة والجناح العسكري المستقل، ثم بعد ذلك ظهر الاتجاه العروبي - أو القومية العربية - لدى جمال عبد الناصر، الذي تواجد مع إفريقيا والعالم العربي، إلا أن السادات من بعده قال: أنا لست زعيما عربيا، وانسحب تدريجيًا من المشهد الإفريقي والعربي، ومن بعده فشلت القيادة المصرية الحديثة في إيجاد مشروع قومي يلتف المصريون من حوله بعد حرب أكتوبر". وقبل أن يختتم الدكتور خلف الميري اللقاء، قال إن "هناك خلطاً بين مفهوم الدولة ومفهوم الأمة، الدولة بمفهومها وخصوصيتها لا ينفي عنها أن تكون جزءًا من الأمة العربية، وأيّة دولة تقوم على مقومات ثلاثة: إقليم، شعب وسلطة سياسية، إلا أن الجماعات الإسلامية أخطأت في فهم هذا المصطلح، وقامت بدحر الخصوصية المصرية ومحاربتها، ولا بدّ من ربط الماضي بالحاضر، والنظر إلى ما حققته ثورة الخامس والعشرين من يناير، والتي أثبتت أن مصر جزء من كل، وهو الوطن العربي، وتابع الميري: "عندما نربط الماضي بالحاضر سنجد أن الخديو توفيق قد استدعى الإنجليز قديمًا للدفاع عن الشرعية والتصدي لأبناء مصر المعارضين لسياساته، وبعد أن دخل الإنجليز مصر قالوا: لقد جئنا لحماية الخديو ولا علاقة لنا بالغزو، إلا أنه تم التنكيل بالخديو والمصريين معًا، ونفس الشيء حدث منذ أشهر قليلة، وتم الاستنجاد بالأجنبي للحفاظ على أريكة العرش المسمّاة بالشرعية، وهذه الأحداث تذكرنا بأن التاريخ لا يتغيّر".