جاءت الزيارة المؤخرة لوزراء خارجية دول حلف شمال الأطلسى «الناتو» لأمريكا، لتتزامن مع الاحتفالات بمرور 70 عامًا على تأسيس الحلف التى شهدتها العاصمة الأمريكية«واشنطن» والتى رافقها اجتماعات متعددة ناقشت عدة قضايا دولية، متعلقة بروسياوأفغانستان، ومكافحة الإرهاب، وتقاسم أعباء الحلف خاصة العسكرية، حيث وعدت برلين برفع مساهمتها فى هذا الصدد، لتصبح 2 ٪ من الناتج المحلى الإجمالى بحلول عام 2024، ولتخفض بعد ذلك إلى 1.5 ٪، وإن كانت أرقام الميزانية الجديدة تشير إلى أن المبلغ حقيقى سيكون أقل بكثير مما أعلن، ما يشير إلى أن الحكومة الألمانية تفتقر للإرادة السياسية التى تضع قضية الدفاع عن أوروبا فى المرتبة الأولى من الأهمية. الألمان برفضون الدفاع عن الناتو وقال دوج باندو، الباحث المتخصص فى شئون السياسة الخارجية بمعهد كاتو، والذى سبق أن عمل مساعدًا للرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان تعليقًا على ذلك: «ألمانيا عانت قبل عقود من الإفراط فى النفقات العسكرية، وظهر ذلك خلال الحرب العالمية الثانية، ولذلك سمح للجنرال «هاستينجز إيسماي» الذى عين من قبل «تشرشل» ليكون السكرتير العام الأول لحلف الناتو، بتقليل نفوذ القوة العسكرية الألمانية من خلال اضعافها». وعودة إلى الداخل الألمانى، وبعيد عن دعوات متصاعدة بإنشاء جيش قادر على تحويل البلاد إلى قوة عالمية، فإنه يبدو أن الألمان قد نسوا الأسباب التى أدت إلى إنشاء قواتهم المسلحة، ووفقًا لاستطلاع أجراه مركز «بيو للأبحاث» فإن أربعة من كل عشرة ألمان، لا يريدون الدفاع عن حلفاء الناتو من أى هجوم يتعرضون له. زيادة مطردة لكنها ضئيلة ويبدو أن «برلين» تحاول التراجع عن التزاماتها العسكرية المتواضعة بلا مبرر، حيث أكدت حكومة ميركل هدفها فيما يتعلق بحلف الناتو، فى إنفاق 2 ٪ من الناتج المحلى الإجمالى بحلول عام 2024، لكنها أكدت فى سياق آخر أن ذلك لن يحدث حتى عام 2030. ومع ذلك، تصر برلين على أنها لا تزال تفى بتعهدها تجاه قوات حلف شمال الأطلسى. فى السياق ذاته، أشار بعض المحللين الألمان إلى الزيادة المطردة، وإن كانت ضئيلة فى النفقات العسكرية خلال الاعوام الماضية، ففى عام 2018، زاد الإنفاق الحقيقى بنسبة 12٪، بما يعكس نمو الاقتصاد الألمانى، وفيما انفقت واشنطن فى نفس العام 1898 دولارًا على الجندى فى الجيش، انفقت ألمانيا 589 دولارًا، ما يدل على المستوى المنخفض لاستعداد الجيش الألمانى عسكريًا، ما دعا المفوض العسكرى فى البرلمان الألمانى «هانز بيتر بارتلز، لإعداد تقرير صدر فى مطلع عام 2019، أكد فيه أنه رغم زيادة النفقات فى الجيش فإنه تم القضاء على عدد قليل من الثغرات فيه، قائلًا: «لا يوجد عدد كافٍ من الموظفين أو العتاد» وحث الحكومة على تسريع عمليات الشراء، مصرًا على أن الجنود بحاجة إلى بعض المعدات المهمة للقيام بوظائفهم. إمكانيات عسكرية محدودة مما سبق يمكن فهم لما تعد المساهمات الألمانية فى المهمات الأمنية بموجب تفويض من الناتو، تعد أقل من المستوى الملائم، فنشر قواتها يفتقر إلى الدعم اللوجستى المناسب والقدرة الفعالة، فضلًا عن النقص فى كل شيء تقريبًا من الدروع الواقية للجسم إلى ملابس الشتاء، ووصل الامر إلى درجة أن مسئولى الناتو اكتشفوا أن الجنود الألمان المتمركزين فى ليتوانيا، يستخدمون الهواتف المحمولة للاتصال، لأن أجهزة الراديو الآمنة غير متوافرة. وسبق أن اضطرت القوات الألمانية العاملة فى أفغانستان إلى الاعتماد على طائرات النقل الأمريكية وطائرات الشحن الأوكرانية، ووقتها خلصت التقييمات أن الجنود الألمان لا يعرفون فى الغالب كيفية استخدام أسلحتهم، فضلًا عن عدم توافر الخبرة فى قيادة المركبات المدرعة، وتجنب القنابل التى توضع على جانب الطريق،، ومما سبق يتوقع محللون أنه حتى لو استمر حزب الاتحاد الديمقراطى المسيحى التابع لميركل فى السيطرة على الائتلاف الحاكم فى ألمانيا، فإنه عير مرجح أن يجد دعمًا شعبيًا لمضاعفة النفقات العسكرية، مشيرين إلى أنه لو فشلت برلين فى الوفاء بالتزامها، فإن العلاقات عبر الأطلسى ستصبح أكثر حدة، وهو ما ظهرت مؤشراته فى كلمة ألقاها نائب الرئيس الأمريكى «مايك بينس» خلال الاحتفالات بالذكرى السنوية السبعين لتأسيس حلف الناتو، حينما قال: «يجب على ألمانيا أن تفعل المزيد، فمن غير المقبول أن يستمر أكبر اقتصادات أوروبا فى تجاهل تهديد العدوان الروسى وإهمال دفاعه عن نفسه وعن دفاعنا المشترك». التهديد الروسى ما سبق يمكن القول إن المشكلة باتت ذات شقين، الأول يتمثل فى أن قلة من الأوروبيين يعتقدون أن التهديد الوحيد المتوقع يأتى من روسيا، والتى سيصبح الهجوم ضدها من قبل القوى المسلحة نوويًا «بريطانيا وفرنسا إلى جانب أمريكا» أبعد من الخيال فى ظل الحرب النووية، والشق الثاتى يتمثل فى أن غالبية الأوروبيين بمن فيهم ألمانيا يعتمدون على أمريكا للدفاع عنهم، رغم مطالبة ترامب بضرورة دفاع أوروبا عن نفسها. ويرى المحللون أن التغيير الوحيد فى السياسة الذى من شأنه أن يُحدث فرقا، أن تنهى الولاياتالمتحدة تبعية أوروبا العسكرية، ونحول مسئولية الدفاع عن أوروبا إلى أوروبا، التى تمتلك عشرة أضعاف القوة الاقتصادية، وأربعة أضعاف عدد سكان روسيا، وبالتالى فإن القارة قادرة على الدفاع عن نفسها. فى السياق ذاته، فإنه لا يزال بإمكان الولاياتالمتحدةالأمريكية وأوروبا التعاون عسكريًا لتحقيق المصالح المشتركة، وفى حالة نشوء تهديد غير متوقع، يمكن للإدارة الأمريكية أن تنشط مرة أخرى، إلا أنه يبقى أنه بعد 70 عامًا من تأسيس حلف الناتو، يجب على الأوروبيين تولى مسئولية أمنهم.