شهد عام 2013 موجات من الصعود والهبوط في علاقات دولتي السودان وجنوب السودان حيث مرت الدولتان بمراحل طويلة من التوتر تخللتها فترات من التحسن النسبي في العلاقات والتقارب حول بعض المواقف والقضايا لاسيما خلال الأشهر الأخيرة من العام الجاري. ومن أكثر ما تميزت به علاقات الدولتين خلال عام 2013 هو كثرة انعقاد القمم التي جمعت بين الرئيسين عمر البشير وسيلفا كير ميارديت وهو أمر غير مسبوق منذ أن حصلت جنوب السودان على استقلالها عام 2011. ورغم أن هذه القمم لم تأت في مجملها بالنتائج المثمرة المرجوة على صعيد حل القضايا الخلافية بين البلدين إلا أنها اعتبرت، من وجهة نظر فريق كبير من المراقبين، مؤشرا جيدا على سعي قيادة الدولتين إلى إيجاد حلول حاسمة للقضايا العالقة بينهما وإنهاء الاضطرابات المستمرة. بدأ عام 2013 بعقد قمة بين الرئيسين البشير وكير في الخامس من يناير في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا وذلك تلبية لدعوة الرئيس الأثيوبي هايلا ماريام ديسالين بهدف حسم القضايا الخلافية بين الطرفين، وتفعيل تنفيذ الاتفاقات الاقتصادية والأمنية الموقعة في سبتمبر 2012 والتي لم يدخل أي منها حيز التنفيذ. ولم تنجح القمة في تقديم حلول حاسمة للقضايا الخلافية وانتهت باتفاق الرئيسين على إقامة منطقة منزوعة السلاح على الحدود المتنازع عليها بين البلدين دون تحديد إطارا زمنيا لذلك، واتفقا أيضا على ترسيم الحدود التي تمثل 80 في المئة من حدودهما الممتدة أكثر من 2100 كيلومتر، وهو ماسبق واتفق عليه مفاوضو الطرفين منذ نحو ثلاث سنوات لكنه لم يترجم على الأرض. كما اتفق الرئيسان على تشكيل لجنة من الخبراء لصياغة اقتراحات غير ملزمة في شأن المناطق المتنازع عليها، في تكرار لما نص عليه الاتفاق السابق بينهما في أديس أبابا قبل ثلاثة شهور. وقبل انتهاء شهر يناير استضافت أديس أبابا قمة ثانية بين البشير وكير بحضور وسطاء الاتحاد الأفريقي بحث خلالها الرئيسان بعض القضايا الخلافية من بينها تشكيل المجلس التشريعي لأبيي، وقضية منطقة (الميل 14) وتشكيل آليات لوقف الإيواء والدعم للتمرد والحركة الشعبية -قطاع الشمال-، والمناطق الخمس المتنازع عليها. ولم تختلف القمة عن سابقتها حيث أنها فشلت في إحداث أي اختراق في حسم القضايا الأساسية بين الطرفين وأرجع الوسطاء ذلك إلى أن دولة الجنوب تقدمت بشروط جديدة فيما يتعلق بقضية (الميل 14)، بجانب تمسكها بأولوية ملف النفط وحسم قضية أبيي التي تتمسك السودان بحلها وفقا للبروتوكول المعروف حول المنطقة. وظل التوتر يخيم على علاقات البلدين خاصة بعدما صعدت الخرطوم من لغتها وجددت موقفها الرافض للتفاوض مع الحركة الشعبية -قطاع الشمال- وعدم استعدادها لتقديم تنازلات جديدة لصالح دولة الجنوب بشأن المناطق المتنازع عليها في الوقت الذي أظهرت فيه جوبا عدم رغبتها في عقد المزيد من المفاوضات مع الخرطوم وهو ما أدى إلى تعليق جولة المفاوضات التي كان من المقرر عقدها في فبراير تحت رعاية رئيس الآلية الأفريقية. وفي السابع من مارس انعقدت مباحثات اللجنة السياسية الأمنية المشتركة بين السودان وجنوب السودان في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا برئاسة وزيري دفاع البلدين لبحث ترتيبات تنفيذ اتفاقيات التعاون التي وقعها البشير وكير في سبتمبر 2012. ونجحت اللجنة في الاتفاق على وضع جداول زمنية مفصلة لاستئناف تدفق النفط، إضافة إلى تطبيق تسع اتفاقيات أخرى لتطبيع العلاقات. ولم يستأنف ضخ النفط إلا في السابع من مايو الماضي حيث تم تصدير أول شحنة من نفط الجنوب عبر ميناء بورتسودان على البحر الأحمر في خطوة اعتبرت مؤشرا على حدوث انفراجة في علاقات الدولتين وأعطت أملا في قرب حسم المشكلات العالقة. غير أن هذا الأمل لم يدم طويلا بعد قرار الرئيس البشير وقف تصدير نفط الجنوب عبر الموانئ السودانية خلال ستين يوما اعتبارا من التاسع من يونيو، وذلك بسبب اتهام الخرطوملجوبا بتقديم الدعم العسكري للجبهة الثورية المتمردة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، والتي ترفع السلاح في وجه حكومة الخرطوم. ولم يقف الأمر على وقف العمل باتفاق النفط فقط بل ألغت السلطات السودانية أيضا الاتفاقات الأمنية والاقتصادية التي أبرمتها مع جنوب السودان. ورهنت الحكومة السودانية العودة عن قرارها بوقف جوبا لكافة أشكال الدعم للمتمردين السودانيين، وهو ما نفته جوبا واتهمت الخرطومَ بدعم المجموعات المسلحة في جنوب السودان. وشكل قرار وقف تصدير النفط صدمة كبيرة لجوبا التي لم تكن تتوقعه في مثل هذا التوقيت وهي في أمس الحاجة إلى إيرادات النفط لتحقيق الانتعاش الاقتصادي المنشود. كما تسبب هذا القرار في ضرر كبير للاقتصاد السوداني الذي يعتمد بشكل أساسي على عائدات تصدير النفط للخروج من أزمته المتفاقمة. وبلغ توتر علاقات البلدين مداه خلال تلك الفترة حتى بدت في الأفق بوادر انفراجة بعدما وافق الرئيس عمر البشير في نهاية شهر يوليو على طلب الوساطة الأفريقية، بتمديد المهلة الخاصة بإيقاف ضخ نفط جنوب السودان عبر الأراضى السودانية حتى الثاني والعشرين من أغسطس، بدلا عن الموعد المحدد يوم السابع من الشهر ذاته ثم وافق على تمديدها مرة ثالثة حتى السادس من سبتمبر. وتزامن ذلك مع اتفاق اللجنة المشتركة بين البلدين على الوقف الفوري للدعم والإيواء للحركات المسلحة ضد الدولة الأخرى. ومهدت هذه الأجواء الإيجابية إلى عقد قمة جديدة بين البشير وكير في الثالث من سبتمبر في الخرطوم لمناقشة بعض القضايا على رأسها إغلاق أنابيب تصدير النفط وإجراء الاستفتاء في منطقة أبيي وترسيم الحدود المتنازع عليها بين البلدين. وكان من أهم النتائج التي خرجت بها القمة هو قرار الرئيس البشير مواصلة بلاده السماح لجنوب السودان بتصدير النفط وهو ما اعتبره كثيرون مؤشرا واضحا على حدوث انفراجة في العلاقات. كما تم التوصل أيضا خلال القمة إلى مجموعة من التفاهمات في ملفات النفط والتجارة والديون، وفتح المعابر الحدودية واتفقت كل من الخرطوموجوبا على طرد "العناصر المتمردة"، والمنتشرة على الحدود بين البلدين، وإطلاق سراح الأسرى وتحديد "الخط الصفري" الذي يفصل بين قوات الجانبين إضافة إلى التنسيق في العديد من المواقف الدولية المشتركة. ورغم أن معظم المراقبين نظروا نظرة إيجابية لهذه القمة معتبرين أنها مثلت خطوة إلى الأمام في طريق إصلاح العلاقات بين البلدين غير أنها لم تنجح في تقديم حلول لعدة مشاكل عالقة من أهمها الاستفتاء في منطقة أبيي والذي كان مقررا عقده في أكتوبرالماضي وفقا لمقترح الوسيط الأفريقي الذي طرح في سبتمبر من العام الماضي، غير أن الخرطوم رفضت المقترح، الذي وافقت عليه جوبا، للعديد من الأسباب أبرزها رفض جوبا مشاركة قبيلة المسيرية في الاستفتاء إضافة إلى عدم اكتمال الترتيبات الفنية الخاصة بالاستفتاء وعدم تكوين المؤسسات المدنية من الشرطة والأجهزة التنفيذية والتشريعية والخدمة المدنية إلى جانب التحدي الأمني الماثل بالمنطقة. ونتيجة لذلك أعلن مجلس السلم والأمن الأفريقي رفضه إجراء الاستفتاء من طرف واحد حيث أن قانونية الاستقتاء وقبول نتائجه مرهونان بموافقة الطرفيْن، أي بموافقة حكومتيْ الخرطوموجوبا. ورغم ماسبق أعلن زعماء قبيلة الدينكا نقوك، أشهر القبائل القاطنة في أبيي والموالية لجنوب السودان، أنهم سيمضون قدما في إجراء الاستفتاء لتقرير مصيرهم إما بالانضمام الى السودان أو الى جنوب السودان على أن يتم إجراء الاقتراع في الفترة من 27 إلى 29 أكتوبر. ومع تصاعد الخلاف حول أبيي استضافت جوبا قمة جديدة بين الرئيسين البشير وكير في الثاني والعشرين من أكتوبر ناقشا خلالها ملفات أبيي وفتح المعابر الحدودية أمام المواطنين والتجار، ونقل نفط جنوب السودان عبر أنابيب الشمال، بالإضافة إلى التبادلات التجارية بين البلدين ومسائل أمنية. ولم يعلن الرئيسان عن أية تدابير ملموسة بخصوص الخلاف حول استفتاء أبيي واكتفيا بإعلان رغبتهما في إحلال السلام في الإقليم، واتفقا على تشكيل سلطة إدارية مشتركة هناك وإنشاء مجلس تشريعي وأجهزة للشرطة. كما اتفقا على الإسراع في تحديد "خط الصفر" في المنطقة منزوعة السلاح على حدود البلدين وفتح المعابر الحدودية، هذا بالإضافة إلى تفعيل اللجنة المشتركة بين البلدين لمراقبة تصدير النفط مع وضع آليات لضبط الحدود والمتمردين قبل منتصف نوفمبر المقبل. وكشفت القمة عن حدوث تحسن نسبي في علاقات البلدين وإشاعة أجواء إيجابية. وبعد عقد الاستفتاء من قبل قبائل الدينكا نقكوك وتصويتهم بنسبة 99.9% لصالح الانضمام لدولة الجنوب رفضت حكومة الخرطوم الاعتراف بتلك النتائج. وفي وقت لاحق أعلنت جوبا أيضا عدم اعترافها بنتائج الاستفتاء داعية الخرطوم للإسراع في التوصل لاتفاق وإقامة استفتاء موحد. وفي التاسع عشر من نوفمبر الماضي استضافت الكويت القمة العربية الأفريقية التي التقى خلالها الرئيسان البشير وكير وعقدا قمة مصغرة بينهما اتفقا خلالها على الإسراع في تنفيذ مصفوفة التعاون التي اتفاق عليا في القمم السابقة. وفي ضوء العرض السابق بدا جليا أن عام 2013 شهد العديد من موجات المد والجزر السياسي في علاقات دولتي السودان. ورغم أن فترات التوتر كانت هي المسيطرة بصورة أكثر غير أن كثرة لقاءات الرئيسين البشير وكير قد ساهمت بدرجة أو بأخرى في تخفيف حدة التوتر وحدوث انفراجة في علاقات البلدين وهو ما يوضح أن توافر الإرادة الحقيقية لدى القيادة هو أمر جوهري لإرساء السلام وحسم القضايا العالقة وفتح صفحة جديدة من العلاقات. وفي هذا الصدد فإن ايجاد حلول جذرية للمشكلات العالقة بين الطرفين، والتي لم يتم حسمها قبل الانفصال، يعتبر الضمانة الحقيقة لاستمرار تحسن العلاقات والحفاظ على السلام والاستقرار بين البلدين.