فى زيارته لمكتبة الملك فهد الوطنية على هامش استضافة مصر ضيف شرف على مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة، وفى المؤتمر الصحفى الذى انعقد فى قاعة المكتبة الكبرى الخميس الماضى، سألت وزير الثقافة المصرى الدكتور حلمى النمنم ما يلى: «ما نراه فى الإعلام المصرى من مواقف متباينة تجاه القضايا السياسية السعودية-المصرية لا يعكس البتة ما يدور فى الشارع المصري! فزيارتى الأخيرة لمعرض الكتاب ورغم المخاوف التى تبث هنا وهناك وتحذّر من السفر إلى مصر، وجدت العكس تمامًا، هو الشعب المصرى ذاته التلقائى البسيط المحب لكل الضيوف القادمين من كل أصقاع العالم وخصوصًا من بلاد الحرمين الشريفين، ثمة غرابة من نوع ما دفعتنى لأن أطرح سؤالى حول مَكمن هذا الخلل الذى تسوق له بعض وسائل الإعلام والإعلاميين المغرضين، من يقف وراءهم ويدفع لهم؟». انتهى سؤالى، فأجابنى بعد تعليق الدكتور عادل الطريفى على السؤال، ليتحدث الدكتور النمنم بمقدمة تاريخية عن عمق العلاقات السعودية-المصرية منذ تأسيس المملكة وحتى اليوم، «مهوِّنًا» من كل ما يدور داخل الأروقة الإعلامية. طبعًا كنت أتوقع أن يأتى الجواب على هذا المنوال، لأن الحضور والتمثيل هنا سياسى بامتياز، لذلك فأنا سأجيب عن سؤالى فى مقالتى بما عرفته عن مصر وأهلها بوصفى «عاشقًا» لهم، أقول: إن مصر ساحرة وستظل ساحرة، هذا السحر الذى جاء مذكورًا عمليًا فى القرآن الكريم فى مصر وحدها، لذلك ظلت وستظل على مر التاريخ ذات نكهة خاصة لا تشبهها أى بقعة على وجه الأرض، تبتلع مآسيها سريعًا، وتذوب كل خلافاتها مع الآخر بطريقة تلقائية، وأمام هذه المعادلة السحرية فشل كل غزاة الأرض بقهرها على تكاثرهم وتألّب شهواتهم وأطماعهم لإخضاعها، ليكتشف المستعمر أن حساباته كانت خاطئة، وأن شعبًا كشعب مصر لن يهزم ولو بعد حين، فمن الهكسوس وملوك الفرس، إلى أباطرة الرومان، والمماليك، والأتراك العثمانيين، ومن الفرنسيين إلى الإنجليز، أثبتت مصر أنها العظيمة، تحيل الحروب إلى سلام، فهى مع من سالمها وجلس إلى مائدتها وشرب من مائها مسالمة. فى إحدى زياراتى إلى بريطانيا التقيت رجلًا كهلًا وإن لم توهن شيخوخته قواه العقلية بعد، وعلى رغم بياض بشرته المشرّبة بحمرة قانية، إلا أن ملمحًا عربيًا يرف فى محياه ويتخايل بين تضاريس سحنته، جلس إلى جانبى متكئًا بيديه على هامة عصاه، وبعدما أخذ نفسًا طويلًا سألنى بلكنة مصرية مكسرة.. هل أنت مصري؟ أجبته لا، أنا سعودى، لم أخيب أمله كثيرًا فى أن يجد مصريًا يتحدث معه ويعيد إليه ذاكرته المنسية، قدم إليّ نفسه وأنه محارب قديم فى القوات الجوية البريطانية، وهو أحد الطيارين الذين شاركوا فى العدوان الثلاثى على مصر، يقول بحسرة: عندما ترجلت من الطائرة وعدت بعدها بسنة إلى مصر فى مأمورية عسكرية اكتشفت فداحة ما قمت به، لقد سحرتنى مصر وأهلها، فقررت لاحقًا أن أقضى ما بقى من عمرى فيها، توثّقت عرى الصداقات العميقة مع الشعب المصرى اللطيف، لم أغفر لنفسى ما اقترفته بحقهم، ومع ذلك غفروا لى هذه الجريمة وتسامحوا معى، اقتنيت محلًا صغيرًا خصصته لزراعة الورود وبيعها، فأنا فى الأصل مزارع أجيد زراعة الورود وتنسيق الحدائق، يضيف قائلًا: عشت هناك قرابة 30 عامًا، مقامى كان فى مصر من أجمل فترات حياتى، ولولا مرض زوجتى الذى اضطرنى إلى ترك مصر لعلاجها فى لندن حتى وافتها المنية لما تركتها، واختتم قائلًا: مصر هذه عظيمة، تعرف بالفطرة كيف تبتلع الأعداء وتحيلهم إلى أصدقاء ومحبين. إن مصر عصية على الابتلاع أو التهجين، مصر دار سُكنى واستقرار وعيش، لأن حضارة البقاء والصمود متأصلة فى جذورها، فحضارتهم «فلاحية» بامتياز، لديهم أرض وماء ورجال متى انتزِعُوا منها ماتوا، حتى المحارب الإنجليزى يأتى إلى مصر ليعمل فلاحًا يقتات من مزروعاته لقمة عيشه، مصر العظيمة التى لا يعرف الجوع لها طريقًا، ستبقى ميدانًا مفتوحًا عصيًا على الاقتحام والتخريب، لذلك، فإن من أولويات نهضتها وشروطها العودة إلى الأرض والماء والشعب من خلال استثمارات ضخمة، فهى بمثابة المصدر الأول الحيوى لها كالنفط لدول النفط، والثروة السمكية لدولة الصين، وبها تستطيع الخروج من مأزق التردى الاقتصادى الذى تواجهه، وليس أمثل من إيجاد شركاء من ذوى رؤوس الأموال كدول الخليج والسعودية على وجه الخصوص للنهوض بها من جهة، وسد حاجات العالم العربى أجمع من النقص الغذائى الذى تعانى منه بسبب شح المياه ونقص الأيدى العاملة، والاستثمار الزراعى وما يتعلق به من طرق زراعية وتصنيعية وتخزينية حديثة، سيحدث نقلة عالمية نوعية، تنتشل عالمنا العربى من أزمة البحث عن الحلقات المفقودة، لا أعتقد أن المصريين تفوتهم حكمة الله فى نبيه يوسف، وأنهم لن يستطيعوا مقاومة الجوع ما لم يحرثوا أرضهم ويزرعوها ويديروا محاصيلها جيدًا، لن يبعث الله لهم نبيًا آخر كى يفسر أحلامهم الواعدة، ويقيهم أى تخبط اقتصادى قد يحدث ما لم يستلهموا الحكمة من واقعهم، وينتفضوا على خلافاتهم للوقوف صفًا واحدًا فى مواجهة الجوع المقبل فى بلد لا يجوع، فهل ستحذو مصر حذو جارتها وشقيقتها السودان التى يقال إنها سمحت للسعودية بزراعة واستصلاح مليون فدان من المناطق الشمالية الشرقية بمنطقة أعالى نهر عطبرة، ثانى أكبر سد فى السودان؟ أخيرًا نحن كشعوب لا نريد من يدلل على ثقافتنا ووشائجها المترابطة الغائرة فى عمق وعينا، تلك التى تتربع مصر على أحد كراسيها بأستاذية مطلقة، بل إن من المؤكد أننا فى السعودية وكذلك دول الخليج نعانى من أراضٍ بور وشح مياه ونقص فى الأيدى العاملة ولدينا ثروات مادية، فَلِمَ لا توضع كل هذه المدخّرات فى أوطاننا العربية عوضًا عن دول الشرق والغرب، كى تستفيد منها شعوبنا؟ نقلًا عن «الحياة» اللندنية