غدًا وبعد أكثر من قرن وربع القرن وبالتحديد يوم 25 نوفمبر 1875 تحل علينا ذكرى بيع الخديوي إسماعيل أسهم مصر في قناة السويس لبريطانيا، والتي قُدرت حينها بمئة وسبعين ألف سهم، ولا تزال الاتهامات تلاحقه وتؤكد أنه السبب الرئيسي في الاحتلال البريطاني لمصر، بينما البعض يراه بشكل مختلف ليضفي عليه بهاء الملك الذي عاش يحلم ببلد متقدم راقٍ ولم يفق من أحلامه إلا على فاجعة التدخل البريطاني في مصر بسبب تراكم الديون خلال فترة حكمه. ولد الخديوي إسماعيل في قصر "المسافر خانة"، وكان الابن الأوسط بين ثلاثة أبناء لإبراهيم باشا، وأصبح وريثًا شرعيًا للعرش بعد وفاة أخيه الأكبر سعيد باشا والذي قام بإبعاده عن مصر ضمانًا لسلامته الشخصية، عن طريق إيفاده في مهمات عديدة كان أبرزها رحلات إلى البابا والإمبراطور نابليون الثالث وسلطان تركيا، كذلك قام بإرساله في جيش تعداده 14000 جندي إلى السودان لتهدئة الأوضاع هناك ولم يعد إلا بعد نجاحه في بسط سيطرته هناك تمامًا. سعى إسماعيل للحصول على لقب خديوي عام 1867 من السلطان العثماني ونجح في ذلك بموجب فرمان مقابل زيادة في الجزية، وتم بموجبه أيضًا تعديل طريقة نقل الحكم لتصبح بالوراثة لأكبر أبناء الخديوي سنًا، كما حصل عام 1873 على فرمان آخر يتيح له استقلال أكثر عن الدولة العثمانية وعرف بالفرمان الشامل، مما منحه حق التصرف بحرية تامة في شئون الدولة ما عدا عقد المعاهدات السياسة وعدم حق التمثيل الدبلوماسي أو صناعة المدرعات الحربية مع الالتزام بدفع الجزية السنوية. كان حلم الخديوي إسماعيل تحويل مصر إلى قطعة أخرى من أوربا كما صرح عام 1879 " حينما قال "إن بلدي لم تعد في إفريقيا، نحن الآن أصبحنا جزءًا من أوروبا" فإسماعيل الذي تلقى تعليمه في باريس وأثرت في وجدانه بلد السحر، وتعلق بالعمارة الفرنسية، حاول بناء مصر حديثة على الطراز الأوروبي والتي ظهر جليًا في منطقتي وسط المدينة ومصر الجديدة، وكان من أهمها إنشاء قصور فخمة مثل قصر عابدين، أيضًا إنشاء دار الأوبرا الخديوية والتي كانت أول دار أوبرا بإفريقيا والشرق الأوسط، والتي كانت تقع بين منطقة الأزبكية وميدان الإسماعيلية (ميدان التحرير حاليا، وتم حرقها عام 1971. إنجازات كبيرة نجح في تحقيقها الخديوي إسماعيل، ففي عهده تم تحويل مجلس المشورة الذي أسسه جده محمد علي باشا إلى مجلس شورى النواب، وأتاح للشعب اختيار ممثليه في البرلمان مما جعل مصر من أقدم ديموقراطيات العالم تاريخيًا، وافتتحت أولى جلساته في 25 نوفمبر 1866. وقام بتحويل الدواوين إلى نظارات، ووضع تنظيم إداري للبلاد، وإنشاء مجالس محلية منتخبة للمعاونة في إدارة الدولة، وأصبح للمجالس المحلية حق النظر في الدعاوى الجنائية والمدنية، مما حصر اختصاص المحاكم الشرعية على النظر في الأحوال الشخصية. وكان الإنجاز الأضخم في تاريخه بالطبع افتتاح قناة السويس، ذلك المشروع الكبير الذي كان قد بدأه أخوه سعيد باشا، والذي من أجله أنشأ محافظة القنال في مارس 1863 برئاسة إسماعيل حمدي بك. وبالفعل تم افتتاح القناة في 16 نوفمبر 1869، خلال حفلًا أسطوريًا، قال البعض أنه تفوق على أساطير ألف ليلة وليلة، وكان الخديوي إسماعيل قد طالب مديري الأقاليم بإحضار عددًا من الأهالي بنسائهم وأطفالهم للمشاركة في حفل الافتتاح، فانتشر الناس على خط القناة من فلاحين ونوبيين وعربان بملابسهم التقليدية حتى أن الإمبراطورة أوجيني أبرقت إلى الإمبراطور نابليون الثالث مؤكدة له أنها لم ترَ حفلًا مثله في حياتها ومما زاد الأمر أبهة اصطفاف الجيش والأسطول المصري في ميناء بورسعيد بالإضافة لفيالقه على ضفاف القناة. وأقيمت خلال الحفل ثلاث منصات خضراء مكسوة بالحرير خصصت الكبرى للملوك والأمراء، والثانية إلى اليمين لرجال الدين الإسلامي ومنهم الشيخ مصطفى العروسي والشيخ إبراهيم السقا، والثالثة إلى اليسار، خصصت لرجال الدين المسيحي، وجلس بالمنصة الكبرى الخديوي إسماعيل ومسيو ديلسبس، والإمبراطورة أوجيني إمبراطورة فرنسا، وفرنسوا جوزيف إمبراطور النمسا وملك المجر وولي عهد روسيا والأمير هنري شقيق ملك هولندا وسفيرا إنجلتراوروسيا بالأستانة والأمير محمد توفيق ولي العهد والأمير طوسون نجل محمد سعيد باشا وشريف باشا ونوبار باشا والأمير عبد القادر الجزائري، وبلغ عدد المدعوين من ذوي الحيثيات الرفيعة زهاء ستة آلاف مدعوًا، وحتى يوم 15 نوفمبر كان قد تم استدعاء خمسمائة طباخ من مرسيليا وجنوة وتريستا. واصطف العسكر عند رصيف النزول لحفظ الأمن ومنع الازدحام وكانت المراكب الحربية قد اصطفت على شكل نصف قوس داخل ميناء بورسعيد في منظر بديع، وبعد أن تناول الجميع الغذاء على نفقة الخديوي صدحت الموسيقى بالغناء وبعزف النشيد الوطني وتلاه الشيخ إبراهيم بكلمة تبريك وقام رجال من الدين المسيحي وأنشدوا نشيد الشكر اللاتيني. وفي المساء مدت الموائد وبها شتى أنواع الأطعمة والمشروبات وانطلقت الألعاب النارية والتي تم استيرادها خصيصًا لهذا الغرض وتلألأت بورسعيد بالأضواء وأنغام الموسيقى. واستغل إسماعيل المناسبة لإظهار مدى حضارة مصر، في محاولة لإظهار المزيد من الاستقلالية عن الأستانة. ووثق حفل الافتتاح الصلة بين الخديوي إسماعيل بإمبراطورة فرنسا أوجيني، حينها كان ملك مصر يمتلك 14 امرأة وبالرغم من ذلك لم يمنعه الأمر من محاولة التودد لأوجيني، مما أثار الأقاويل حول هدايا إسماعيل لها وإقامتها في قصره والأموال الطائلة التي أنفقها على استضافتها. غير أن الأمور لم تستقم لفترة طويلة حيث اضطرت مصر إلى التخلي عن حصتها في قناة السويس بعد أقل من سبع سنوات، حينما اضطر الخديوي لبيع الأسهم المصرية محاولا سد ثغرة في تل الديون المهول التي اقترضها في عهده. يقول المسيو جابرييل شارم أحد كتاب فرنسا السياسيين وأحد أهم محرري جريدة (الديبا) والذي عاصر إسماعيل وقام بدراسة حالة مصر في عهده: "إن إسماعيل باشا قد اقترض في الثمانية عشر عامًا التي تولى الحكم فيها نحو ثلاثة مليارات من الفرنكات (120 مليون جنيه تقريبًا)، ولكن الواقع أن نصف هذا المبلغ على الأقل بقى في يد الماليين وأصحاب البنوك والمضاربين من مختلف الأجناس ممن كانوا يحيطون به على الدوام" وهذا هو الخراب بعينه. ووصف البعض الاقتراض بأنه عادة سنوية لإسماعيل الذي كان مهتمًا بتطوير البلاد لتحقيق الحلم الذي طالما راوده بجعلها قطعة من أوروبا، غير أن انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية أدى إلى تراكم الديون على البلاد نظرا لانخفاض أسعار القطن المصري في مواجهة نظيره الأمريكي. ما أن تمت صفقة بيع مصر أسهم قناة السويس بأربعة سنوات أي عام 1979 حتى قامت إنجلترا بخلع الخديوي إسماعيل عن الحكم بتدخل سافر في شئونها بسبب تراكم الديون في عهده، وعلى الفور سافر إلى نابولي بإيطاليا، ثم انتقل بعدها للإقامة في الأستانة. وتوفي إسماعيل في 2 مارس 1895 في قصر إميرجان في اسطنبول والذي كان له المنفى والمحبس بعد إقالته.