محمود الشُنقرابى فنان ينهلُ من ذاكرته الجمالية الضاربة فى الجذور، فهو المسافر دومًا فى ذاكرة المكان وعالم الخيال، فضلا عن سفره عبر الأزمان من خلال استدعاء الحواديت الشعبية القديمة، عوالم ألف ليلة وليلة، وحكايات الشاطر حسن وست الحسن، وكذلك الشخصيات الملحمية مثل أبوزيد الهلالى. وبحسب وصفه للحظة الإبداع، يرسم «الشنقرابى» لوحاته فى الحلم، حيث تزوره الكائنات والشخوص، وتتراقص الخيالات فى ذاكرته، فتستسلم يده لنداهة الفن، لتحوّل خيالاته البعيدة إلى جواهر لها حضورها الفذ على أرض الواقع. يمتلك «الشنقرابى» ثروة هائلة من اللوحات بمثابة كنز حقيقى يستمتع به كل صاحب ذوق، ويستطيع كل ذى عينين أن يطَّلعَ عليه وينهلَ منه جماليًّا ومعرفيًّا، وكانت لوحاته موضوعًا لأكثر من رسالة علمية فى فلسفة الفنون، إذ تختمر فكرته فى الوجدان، ثم تشرق مثل شمس باذخة بالدفء. وبشكل عام، يسبح «الشنقرابى» فى فضاءات فريدة، تتداخل فيها العوالم الخيالية البعيدة مع الواقع المُعاش، ويعتمد فى منتجه الإبداعى سواء التشكيلى أو الشعرى على «الرؤيا»، يضربه الحلم فيصحو ليرسم ويكتب ويبدع كما يليق بفنان حقيقى تعكسُ إبداعاتُه تجليات قلب صوفى، وحكمة فيلسوف، وشطحاتِ ملوّنٍ يدرك معنى الفن. ورغم ذلك لا يلتفت إليه المسيطرون على المنابر الإعلامية، كما أنه لا يجرى وراء الميديا والشهرة، لكن هناك من يقدّر فن الشنقرابى، ويراه فارقًا، ومن هذا المنطلق أقامت «صُحبة النداهة» فى نهاية العام المنقضى ندوة موسعة حول العوالم التشكيلية للفنان محمود الشنقرابى، أشرف عليها الشاعر والفنان أحمد ريان النديم، عرض فيها فيلما توثيقيا عن لوحاته، وفى تعليقه طرح «ريان» رؤيته حول فن «الشنفرابى»، حيث المزج والتشظى، وتعدد العناصر التشكيلية لديه، كما فى فن ما بعد الحداثة، ولكن الشنقرابى يتعامل معها من منظور الواقع الشعبى المصرى والشخصية المصرية فى الرؤيا والتشكيل، إذ يستفيد من التجريدية لكن بلغة عميقة مستمدة من الحواديت والخرافة، والأساطيرة الشعبية المصرية. أما الناقد سيد هويدى فقد تحدث عن المشتركات بين الفنانين الفطريين فى العالم، وكيف أن الشنقرابى يتماس معهم فى كثير منها، لكنه يتميز بسرديته الأدبية التى انعكست على السردية التشكيلية، وقال إن «الشنقرابى» اتكأ على حساسيته الفنية وخبرته السابقة، باعتباره شاعر داخل دائرة ثقافية، رغم أن الفنان الشعبى يتجاوز القواعد والحسابات الدقيقة فى عمله، لذلك يشترك معه فى طريقة التأليف والبناء بعيدا عن المنطق البصرى. بل إنه يمارس نشاطه الإبداعى من داخل اللاوعى، يعبر عن معان تدور فى نفسه وعن رموز لفكر اعتقادى مرتبط بحياته. فلهذا تتميز أشكاله بالبساطة والأصالة والصراحة، والقدرة على السرد، البعيدة عن التراكيب الفنية التى تضعها النخب هدفا. الدهشة هى أهم ما يميز إبداعات الفنان «الشنقرابى» تدعوك إلى عالم ساحر مبهج أحيانا، وفى حين آخر على نحو درامى، وتارة يتجلى فى صياغة الأسطورة مناخا ملحميا، كان لجنوب الوادى باعتباره مكان الفضل الأكبر فى بلورة رؤيته الشفافة. من جانبها، عرضت الباحثة شيماء السنهورى، المدرس المساعد بأكاديمية الفنون، ملخصا لبحث رسالة الماجيستير الجزء الخاص بالفنان محمود الشنقرابى، حيث تناولت فيه نشأة الفنان وحياته، ثم عرضت أهم العوامل التى أثرت عليه، وموضوعات وعناصر الثقافة الشعبية لديه، ثم عرضت تطور العملية الإبداعية عند الفنان ومراحلها، منذ عام 1999م وحتى عام 2015م. ثم تحدثت الناقدة الدكتورة ميرفت شاذلى هلالى عن عوالم أبوزيد الهلالى فى لوحات «الشنقرابى»، مشيرة إلى أن الشخصية الفنية لإبداعاته خرجت مرتبطة بخصائص عضوية مع بيئتها، وهاضمة للقيم والروافد الثقافية والحضارية السابقة، التى تركت أثرها الواضح فى الفنان منذ بداياته الأولى، فجاءت أعماله متفردة، حاملة روح الأماكن القديمة، والقصص الشعبية المؤثرة مثل «أبوزيد الهلالى»،«وذات الهمة» بتصريف ومعالجة خاصة غير تقليدية خالية من الترديد السطحى، ومغلفة بالكثير من الخيال وحبكة التصميم.