كان الجو باردًا، والموج مرتفعًا، والسحاب تلتحف به الشمسُ فى السماء، وطيور النورس تسبح فى الهواء مثلما تسبح الأجسام فى الفضاء، بينما كنت أجلس وحدى على كرسى تغوص سيقانه الأربعة فى رمال الشاطئ المبتلة، أتأمل البحر الذى يداعبنى بموج يغمر قدمىّ، فتثلج برودته صدرى. ثم لاح لى من بعيد عجوزان رجل وامرأة يسيران ببطء فوق الرمال.. أخذا يقتربان. رن جرس نقالى فإذا بأحد أصدقائى يسألنى: أين أنت؟!، قلت: على شاطئ البحر. قال متعجبًا: فى عز البرد!، قلت ضاحكًا: جمال البحر يبدو أروع فى أيام البرد، قال: أين أنت بالتحديد لأصل إليك بعد قليل؟ مرت دقائق معدودات وجاء صديقى يتعكز بعكاز بسبب إصابة فى الساق كان يعانى منها منذ أيام. كان العجوزان ما زالا يقتربان وتداعب أقدامهما الأمواج، وهما يتحدثان وبأيديهما يشيران فى أكثر من اتجاه، وبدا لى أنهما زوجان. تركت لصديقى الكرسى، فقال: أحتفظ بكرسى فى سيارتى، قلت: أعطنى مفتاحها ودلنى على مكانها. فلما عدت ومعى الكرسى اكتشفت أن موقع صديقى قد تغير، فقد أبعد الكرسى بضعة أمتار عن الأمواج، لكننى اندهشت حينما رأيت كرسيه على الرمال يتوسط رسمًا هندسيًا لغرفة لها باب وشباك!، فابتسمت وقلت وأنا أشير إلى الرسم: ماذا فعلت؟!، قال: بل فعله العجوزان!، فنظرت إلى الجانب الذى كانا فيه يسيران فلم أجدهما.. ثم نظرت إلى الجانب الآخر فلمحتهما. فقلت: كيف رسماه؟!، قال: بالعكاز!، قلت: لقد رسماه بإتقان، قال: الطريف أنهما وقفا خارج حدود الغرفة أمام بابها وطرقاه بأيديهما باستخدام فن البانتوميم عدة طرقات، ففتحت لهما باستخدام نفس الفن الباب، فقالا: هل تأذن لنا بالدخول؟!، فلما أذنت لهما دخلا وأشادا بالغرفة وجمال أثاثها وفتحا الشباك ليتجدد فيها الهواء! وضعت الكرسى خارج الغرفة أمام بابها الذى فتحته حتى لا يظن صديقى أنى تركته داخل الغرفة وحده!، وأخذت أراقب فى الهواء الطلق العجوزين وهما يبتعدان ببطء وينظران ويشيران برفق تارة إلى السحاب، وتارة إلى البحر، وتارة إلى الطير فى السماء، وتارة إلى بساط الرمل، وتارة يتوقفان وهما يتضاحكان، وتارة يلتقطان حجرًا من الأرض ويلقيان به فى البحر، وتارة ينظران إلى بعضهما البعض وكأنهما حبيبان حديثا العهد بالحب. إن السعادة قرينة البساطة ووليدة الأفكار الجذابة.. وهى كالزهرة تنمو وتتفتح بالرى والسُقيا.