يشكل توقيع السودان والصين في الثالث والعشرين من مايو 2016، على اتفاقية إطارية لتشييد أول محطة نووية للاستخدامات السلمية في السودان، خطوة مهمة في علاقة السودان بالصين التي وافقت على وضع كامل خبراتها وقدراتها لصالح مشروع الطاقة النووية بالخرطوم. وكان العام الماضي قد شهد نقلة نوعية مهمة في علاقات البلدين، إذ تم توقيع شراكة إستراتيجية بين البلدين بمختلف المجالات الاقتصادية والسياسية"، على خلفية زيارة الرئيس السوداني عمر البشير للصين، وقد شهدت الزيارة اتفاقا على إعادة جدولة ديون السودان للصين (7 مليارات دولار أميركي) ومنح فرص وتسهيلات جديدة في تسديدها. وبجانب بعض الاستثمارات الصينية غير المعلنة الحجم في السودان، فالمعلوم في مجال البترول هو أنها أي الصين تملك 40% من امتياز شركة "قريتر نايل للبترول" و100% من "بترو إنيرجي" بما يعادل 90% من نفط السودان. بجانب شراكتها في مصفاة الجيلي شمال الخرطوم وخط نقل البترول من عدارييل غرب السودان إلى ميناء بور تسودان شرقه. ولا شك أن تداخل وتزايد هذا النفوذ الصيني في المنطقة يعطي دلالات معينة في سياق التحليل الكلي للتطورات في منطقة الشرق الأوسط، وصراع القوى الكبرى على المنطقة في مرحلة السيولة السياسية التي تمر بها. ويأتي تعاون بكين مع الخرطوم باعتباره حلقة أخرى ضمن عدة حلقات تهدف الصين منها إلى تكثيف تواجدها في منطقة الشرق الأوسط، التي باتت تحظى باهتمام خاص من جانب الصين، والذي أصبح يتصاعد تدريجيًا. ومن مؤشرات تصاعد الاهتمام.. ثمة العديد من المؤشرات الكاشفة لطبيعة الاهتمام الصيني بالمنطقة ولعل أبرزها: أولًا: تعيين الصين في 29 مارس 2016، الدبلوماسي شيه شياو يان كأول مبعوث خاص لها في سوريا، بالتوازي مع استمرار الجهود التي تبذلها أطراف دولية وإقليمية عديدة للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية ودعم فرص نجاح مفاوضات جنيف في حل الخلافات العالقة بين النظام السوري وقوى المعارضة. ثاني المؤشرات: انعقاد الاجتماع السابع ل"منتدى التعاون الصيني العربي" في الدوحة في 12 مايو 2016، والذي أكدت بكين خلاله أنها ستولي المنطقة مزيدًا من الاهتمام خلال المرحلة القادمة، وهو ما يبدو متوافقا مع ما تشهده المنطقة من تطورات سياسية وأمنية واقتصادية متسارعة لم تكن بعيدة عن التغير الملحوظ في سياسات القوى الدولية تجاهها، والذي انعكس في انسحاب الولاياتالمتحدةالأمريكية تدريجيًا من مناطق الأزمات مقابل اتجاه روسيا إلى رفع مستوى انخراطها السياسي والعسكري فيها، مع تطلع العديد من القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة إلى توسيع هامش الخيارات المتاح أمامها على الساحة الدولية. ويتعلق ثالث المؤشرات، بصدور أول وثيقة صينية، في بداية عام 2016، حول السياسة الصينية تجاه الدول العربية، بمناسبة الذكرى الستين لبداية العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين. لكن ذلك في مجمله لا ينفي ما يراه مراقبون من أن الصين ما زالت تمنح علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة درجة أعلى على سلم أولياتها مقارنة برفع مستوى انخراطها السياسي في الأزمات المختلفة. في سياق جهودها الحثيثة لرفع مستوى تعاونها الاقتصادي مع دول الشرق الأوسط، من خلال تأسيس شراكات اقتصادية، لا تنسى الصين ثقل موازين بعض القوى الدولية والإقليمية المختلفة في المنطقة، من أجل العمل على تحييد الخلافات العالقة بين تلك القوى بسبب التباين في التعامل مع الأزمات الإقليمية المختلفة، من أجل تجنب تداعياتها السلبية المحتملة على العلاقات الاقتصادية. ومن هنا، سعت الصين إلى طرح مبادرات عديدة لرفع مستوى علاقاتها الاقتصادية مع الدول العربية، على غرار تأسيس منتدى "التعاون الصيني العربي، والذي سبقته مبادرة الرئيس الصيني شي جين بينغ للتعاون بين الصين والدول العربية في إنشاء "الحزام والطريق". وقد أشارت تقديرات عديدة إلى أن قيمة التبادل التجاري بين الصين والدول العربية وصلت إلى نحو 250 مليار دولار خلال عام 2015. ومن دون شك، فإن المساعي التي تبذلها بكين لدعم شراكاتها الاقتصادية مع دول المنطقة تعود في جزء مهم منها إلى رغبتها في تأمين مصادر الطاقة من المنطقة، باعتبارها أحد أكبر المستوردين للنفط، إلى جانب إحياء مشروع "طريق الحرير"، خاصة بعد الوصول للاتفاق النووي مع إيران في 14 يوليو 2015 ثم رفع العقوبات المفروضة على الأخيرة بعد إقرار الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالتزامها بتنفيذ الاتفاق.. حيث يري مراقبون أن الصين مارست دورًا بارزًا في هذا الخصوص خلال المفاوضات مع إيران، باعتبارها إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن التي شاركت في مجموعة "5+1"، من أجل الوصول إلى هذا الاتفاق، على أساس أن ذلك يمكن أن يولد أثارا إيجابية على مصالحها بما في ذلك رفع مستوى التعاون الاقتصادي مع إيران، حيث تعد الصين الشريك التجاري الأكبر للأخيرة. وتسعى الصين في التعامل مع تطورات منطقة الشرق الأوسط إلى تحقيق عدة أهداف تحمل في طياتها العديد من الدلالات: أولها: السعى إلى تأسيس علاقات سياسية متوازنة، تتواكب مع جهودها لرفع مستوى التعاون الاقتصادي مع دول المنطقة، وهو ما بدا جليًا في الجولة الإقليمية التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ في المنطقة بداية عام 2016، والتي شملت عدة دول في الشرق الأوسط. ثانيها، السعي للحفاظ على الدولة القومية في المنطقة، ورفض أية محاولات لتقسيم بعض دول المنطقة، خاصة التي تواجه أزمات داخلية، حتى لا تنخرط في صراعات سياسية تعمل على تعطيل طموحاتها الاقتصادية في المنطقة. ثالثها، السعي لاتباع الخيار الدبلوماسي في التعامل مع أزمات المنطقة، وقد بدا اهتمام الصين بهذا المحور تحديدًا جليًا في اهتمامها بتعيين مبعوث خاص لعملية السلام في الشرق الأوسط منذ عام 2002. ويتعلق آخرها، بدعم الحرب ضد الإرهاب، حيث أعلنت بكين استعدادها لتقديم دعم لبعض الدول التي تواجه التنظيمات الإرهابية، وطرحت مبادرات عديدة لتفعيل التعاون ضد الإرهاب. تكشف الأهداف السابقة عن دلالات قوية تؤكد أنه رغم أن الصين باتت تبدي اهتمامًا خاصًا بالأزمات الإقليمية في المنطقة خلال الفترة الحالية، إلا أن ذلك لا يوحي حتى الآن بأنها تتجه إلى رفع مستوى انخراطها السياسي في تلك الأزمات، لاعتبارات عديدة يتمثل أهمها في سعيها إلى تجنب أية تداعيات سلبية قد يفرضها ذلك على علاقاتها مع بعض القوى الدولية، التي تدخلت بشكل قوى في بعض تلك الأزمات على غرار روسيا، فضلا عن أن ذلك ربما يؤثر على مصالحها الاقتصادية في المنطقة، خاصة في ظل اتساع نطاق الخلافات العالقة بين القوى الإقليمية المعنية بتلك الأزمات، والتي تسعى الصين إلى تأسيس علاقات متوازنة معها. يبقى القول أن الصين في سياق البحث عن مصالحها في الشرق الأوسط، تُغلب المصالح الاقتصادية على حساب الدخول في صراعات السياسة وتقلباتها وتتبع توجهات سياسية حذرة، بقصد وضع حدود للهيمنة الأمريكية على العالم. ربما لا تسعى الصين إلى قيادة العالم، أو إلى أن تصبح القطب الأوحد الجديد، لكنها قطعًا تسعى إلى الحد من النفوذ الأمريكي على مناطق العالم، وما نتج عن ذلك من توازنات وخرائط جديدة للقوى والثروة في العالم، وهي في سعيها إلى هذا الهدف تتجه إلى تعزيز العلاقات، وبناء الشراكات والتحالفات مع دول ومناطق أخرى حول العالم، دون الإنخراط في أي صراعات وتوترات إقليمية جارية من خلال اتباعها إستراتيجية أكثر برجماتية في العلاقات الدولية.