رغم أن الصين تبدى اهتماما خاصا بمنطقة الشرق الأوسط منذ عقود عديدة، وهو ما يبدو جليا فى تعيينها مبعوثا خاصا للشرق الأوسط منذ عام 2002 وإرسالها سفنا حربية إلى خليج عدن لمكافحة أنشطة القرصنة ومشاركتها فى عمليات حفظ السلام فى بعض دول المنطقة ودعمها لعملية السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، فإنها ربما لم تكن معنية بالتطورات التى تشهدها تلك المنطقة فى أى وقت مضى أكثر مما تبدو فى الفترة الحالية. فقد بدأت تلك التطورات، خاصة من بداية الثورات والاحتجاجات التى اجتاحت العديد من الدول العربية فى عام 2011، تفرض تداعيات استراتيجية عديدة لم تكن بعيدة عن اهتمام دوائر صنع القرار ومراكز الفكر والدراسات فى الصين. حيث اسهمت تلك التطورات فى اتساع نطاق حالة عدم الاستقرار فى المنطقة، على المستويات المختلفة السياسية والأمنية والاقتصادية، كما أنها أدت إلى تصاعد حدة النزاعات ذات الطابع الطائفى، واتساع نطاق الحروب بالوكالة بين القوى الإقليمية الرئيسية التى تتباين سياستها فى التعامل مع الأزمات المختلفة التى تشهدها تلك المنطقة. دواعش الصين وفوق ذلك وفرت بيئة خصبة لتطور وتزايد نشاط التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، الذى يسعى فى الوقت الحالى إلى التمدد فى مناطق جديدة، بعيدة عن بؤر نفوذه التقليدية، واستقطاب أعداد لا بأس بها من العناصر البشرية القريبة أيديولوجيا من اتجاهاته العامة. وفى هذا السياق، بدأت اتجاهات عديدة فى الإشارة إلى أن هناك زيادة ملحوظة فى عدد الصينيين الذين انضموا إلى «داعش» فى الفترة الماضية، وإلى أن ثمة اهتماما خاصا من جانب التنظيم بدعم وجوده فى منطقة آسيا الوسطى على مقربة من حدود الصين وباكستان والهند وأفغانستان وغيرها. من هنا، اتخذت الصين خطوات بارزة للتعامل مع التداعيات المحتملة لتلك التطورات. فقد كان تصاعد الحرب الدولية على الإرهاب أحد الأسباب الرئيسية التى دفعت الهيئة التشريعية العليا الصينية إلى إقرار أول قانون لمكافحة الإرهاب، فى نهاية ديسمبر 2015. كما مثلت بكين طرفا رئيسيا فى مجموعة «5+1» التى شاركت فى المفاوضات التى جرت مع إيران لتسوية أزمة ملفها النووي، حيث نجح الطرفان فى الوصول إلى تلك التسوية فى 14 يوليو 2015، التى أدت فى النهاية إلى رفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران، فى 16 يناير 2016، أى بعد ستة أشهر تقريبا، مع تأكيد تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التزام الأخيرة بتعهداتها فى الاتفاق. فضلا عن ذلك، حالت الصين، خلال السنوات الماضية، دون تصعيد حدة الضغوط الدولية على نظام الرئيس السورى بشار الأسد، حيث استخدمت مع روسيا حق الفيتو ثلاثة مرات للحيلولة دون استصدار قرارات إدانة من داخل مجلس الأمن فى هذا الشأن، حيث ترى أن المفاوضات هى الخيار الوحيد لتسوية الأزمة السورية. ويبدو أن النموذج الليبى كان أحد الدوافع التى اسهمت فى إصرار بكين على تبنى هذه السياسة فى التعامل مع الأزمة السورية تحديدا، حيث كانت قد امتنعت عن معارضة قرار مجلس الأمن رقم 1973 الذى صدر فى مارس 2011، وتم استغلاله لتفعيل الخيار العسكرى من جانب حلف «الناتو» الذى أدى إلى إسقاط نظام الرئيس الليبى السابق معمر القذافي، وهو ما دفع بكين إلى الإعراب عن معارضتها لاستخدام القوة فى العلاقات الدولية. كما سعت الصين إلى تقليص حدة الأزمة التى نشبت بين السعودية وإيران مع بداية العام الحالي، بسبب ردود الفعل المتشددة التى أبدتها الأخيرة تجاه قيام الأولى بإعدام 47 شخصا من بينهم نمر باقر النمر فى 2 يناير 2016، حيث قامت بتكليف نائب وزير الخارجية تشانغ مينغ بزيارة كل من الرياض وطهران للمشاركة فى الجهود المبذولة فى هذا السياق. أولوية اقتصادية مع ذلك، فإن هذه الخطوات فى مجملها لا تؤشر إلى أن الصين فى طريقها نحو التحول إلى قوة سياسية على الساحة الدولية، أو إلى رفع مستوى انخراطها فى التفاعلات السياسية التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط. إذ يبدو حتى الآن أن بكين تحرص على عدم مزاحمة القوى الأربع الأخرى دائمة العضوية فى مجلس الأمن، وهى الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسياوفرنسا وبريطانيا، والتى تمارس أدوارا مختلفة المستوى فى الشرق الأوسط. وربما يمكن القول إن ثمة عوامل رئيسية عديدة دفعت بكين إلى التمسك بوضع حدود واضحة لانخراطها السياسى فى المنطقة. أول هذه العوامل، يرتبط بحرصها فى المقام الأول على الفصل بين تطور علاقاتها الاقتصادية مع كثير من دول المنطقة، لاسيما الدول العربية، والعزوف عن المشاركة بكثافة فى التفاعلات السياسية والعسكرية التى تجرى فى المنطقة، حيث ترى بكين أن الأولوية بالنسبة لها تكمن فى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية فى المنطقة، على غرار تأمين وارداتها النفطية من المنطقة خاصة أنها باتت أكبر مستهلك للطاقة فى العالم، وزيادة حجم تجارتها مع الدول العربية، والذى وصل، حسب بعض التقديرات، إلى 251.2 مليار دولار فى عام 2014، بزيادة 5.2% عن عام 2013. ووفقا لرؤية بكين، فإن هذا الفصل ينتج تداعيات إيجابية عديدة، أهمها أنه يعفى الصين، بدرجة كبيرة، من تحمل تكلفة الانخراط السياسى والعسكرى المكثف فى أزمات المنطقة، على غرار القوى الدولية الأخرى، مثل الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا، التى تحولت إلى أطراف شرق أوسطية بامتياز بحكم زيادة تأثيرها فى تفاعلات المنطقة، لكن مصالحها باتت عرضة للاستهداف من جانب أطراف عديدة. ومن هنا ربما يمكن القول إنه على عكس ما تروج له بعض الكتابات، فإن الصين قد لا تتبنى بالضرورة رؤية سلبية تجاه الوجود السياسى والعسكرى لهذه القوى فى المنطقة، خاصة أن هذا الوجود يمكن أن يساعد فى إعادة توجيه المسارات المحتملة لأزمات المنطقة بما يتوافق مع مصالح بكين. فعلى سبيل المثال، فقد حال الوجود العسكرى الأمريكى فى المنطقة، وفقا لبعض الاتجاهات، دون نشوب صراعات عسكرية كان من الممكن أن تهدد مصالح بكين فى المنطقة. كما أن الانخراط العسكرى الروسى فى الأزمة السورية لم يكن بعيدا عن مصالح بكين، باعتبار أن ذلك ربما يكون قد ساعد فى الحفاظ على تماسك وبقاء نظام الرئيس السورى بشار الأسد، بعد أن حققت قوى المعارضة نجاحات نسبية فى الفترة الأخيرة، بشكل يعزز موقع النظام فى المفاوضات القادمة التى سوف تجرى وفقا لما جاء فى قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذى أيدته الصين وسعت من خلاله إلى إضفاء نوع من الأهمية والزخم على دعوتها للوصول إلى تسوية سياسية للأزمة. استعداء «داعش» أما ثانى هذه العوامل، فينصرف إلى مخاوف بكين من إمكانية أن يؤدى تفعيل مشاركتها فى الحرب ضد الإرهاب إلى استهداف مصالحها من جانب التنظيمات الإرهابية، لاسيما تنظيم «داعش»، على غرار ما حدث مع بعض القوى الدولية الأخرى، مثل فرنسا، التى شهدت فى يناير ونوفمبر 2015 عمليات إرهابية عديدة. وهنا، يمكن القول إن السياسة التى تتبناها الصين فى الحرب ضد الإرهاب تختلف بدرجة كبيرة عن تلك التى تتبعها بعض القوى الأخرى، مثل روسيا، والتى تقوم على مقاربة مختلفة تتمثل فى «ضرورة محاربة الإرهاب فى الشرق الأوسط قبل أن يصل إلى موسكو»، فى حين أن بكين لم تصل بعد إلى هذه المرحلة المتقدمة من التحرك لصد أى تقدم محتمل للتنظيمات الإرهابية فى اتجاهها. فيما يتعلق بالعامل الثالث، بما أشارت إليه اتجاهات عديدة بشأن عدم وجودة رؤية واضحة بعد لدى بكين إزاء التعامل مع حالة التشابك والتعقيد التى تتسم بها الأزمات الإقليمية المختلفة فى الشرق الأوسط، نتيجة السيولة الشديدة فى أنماط التفاعلات التى تجرى فى المنطقة، والتى أنتجتها الارتدادات السريعة للأزمات المختلفة داخل كثير دول المنطقة والتى تكتسب العلاقات مع بعضها أهمية خاصة من جانب الصين، وتصاعد دور الفاعلين من غير الدول على غرار الحوثيين فى اليمن وحزب الله فى لبنانوسوريا والميليشيات الشيعية فى سوريا والعراق، وتحول التنظيمات الإرهابية إلى طرف رئيسى فى تلك التفاعلات، وانتشار ظاهرة «الحرب بالوكالة». وبعبارة أخرى، فإن القضايا التقليدية التى أبدت الصين اهتماما خاصا بها، على غرار قضية الصراع العربي- الإسرائيلى لم تعد تمثل العنوان الرئيسى لأزمات الشرق الأوسط، وهى كلها عوامل ربما دفع الصين فى اتجاه تبنى سياسة حذرة تجاه التعامل مع تلك الأزمات. عدم الانحياز من هنا ربما يمكن القول إن الصين سوف تعتمد فى تفاعلها مع الأزمات الإقليمية المختلفة التى تشهدها المنطقة، على قاعدة «توازن المصالح»، التى تعتمد على شقين: أولهما، توازن مصالح مع القوى الدولية التى تحولت إلى أطراف رئيسية فى المنطقة، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكيةوروسيا. إذ أن بكين لا تسعى إلى مزاحمة واشنطن على الدور الإقليمى فى المنطقة، أو بمعنى أدق لا تبدو فى وارد المشاركة فى أعباء الانخراط بشكل أكبر فى تفاعلات المنطقة. فضلا عن أنها مازالت بعيدة عن تبنى استراتيجية الضربات الوقائية المتقدمة التى تتبناها روسيا فى التعامل مع الأزمات المختلفة. وثانيهما، توازن مصالح بين الأطراف المحلية والإقليمية فى الأزمات المختلفة. فرغم اهتمام الصين بدعم تسوية الأزمات الإقليمية المختلفة، فإنها أنها تتجنب الانحياز إلى أحد أطراف الصراع. وقد بدت هذه السياسة جلية فى تأكيد نائب وزير الخارجية الصينى تشانغ مينغ أن «الصين لا تنحاز لأحد فى الشرق الأوسط»، وأن بلاده «سوف تستمر فى تبنى موقف متوازن من أزمات المنطقة». سياسة متوازنة هذا السياسية المتوازنة التى تتبناها الصين انعكست فى مواقف عديدة. فرغم العلاقات القوية التى تؤسسها الصين مع إيران، فإن ذلك لم يمنعها من الالتزام بالعقوبات الدولية التى فرضها مجلس الأمن الدولى وبعض القوى الدولية على إيران بسبب أزمة ملفها النووي، حيث اعتبرت أن هذا الخيار أفضل من نشوب مواجهة عسكرية قد تكون عواقبها وخيمة على الشرق الأوسط. وعندما تم رفع تلك العقوبات، كانت الصين من أولى القوى الدولية التى تسعى إلى إعادة تفيعل علاقاتها الاقتصادية مع إيران من جديد. كما أن بكين سعت إلى فتح قنوات تواصل مع كثير الأطراف الداخلية فى الأزمة السورية، حيث استقبلت وزير الخارجية السورى وليد المعلم، فى ديسمبر 2015، قبل أن تدعو رئيس الائتلاف الوطنى لقوى المعارضة السورية خالد خوجة إلى زيارتها بعد ذلك بأسبوعين. من هنا ربما يمكن القول إن الصين سوف تستمر، على المدى المتوسط، فى اتباع السياسة نفسها للتعامل مع الأزمات الإقليمية المختلفة بالمنطقة، من منطلق الحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع دولها، وعدم مزاحمة القوى الإقليمية الأخرى، وربما الأهم من ذلك تجنب المشاركة فى تحمل أعباء الانخراط فى التفاعلات السياسية والعسكرية فى الشرق الأوسط.