ربما يمكن القول إن السؤال عن مستقبل العلاقات المصرية – الروسية ليس جديدا وإنما متجدد، وذلك بفعل التطورات المتسارعة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، والتي باتت تفرض تداعيات مباشرة على مصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بتطوراتها، وفي مقدمتها مصر وروسيا. ففضلا عن تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم «داعش» الذي يتمدد داخل دول عديدة بالمنطقة، مثل العراقوسوريا وليبيا، وبات يتطلع إلى الظهور في مناطق جديدة على غرار وسط آسيا والقوقاز، فإن استمرار الأزمات الإقليمية الرئيسية من دون حل أو تسوية، وعلى رأسها الأزمات في سوريا واليمن وليبيا، كفيل بتكريس حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي تعصف بالمنطقة، بكل ما يفرضه ذلك من تهديدات لا تبدو هينة على أمن ومصالح دولها. روسيا.. شرق أوسطية ومن دون شك، فإن ثمة متغيرين رئيسيين يضفيان وجاهة وأهمية خاصة على هذا السؤال فى الوقت الحالي: المتغير الأول، يتمثل فى تحول روسيا إلى طرف رئيسى فى كثير من الملفات الإقليمية الرئيسية، بشكل يمكن القول معه أنها أصبحت «دولة شرق أوسطية» بحكم التأثير الواسع الذى بات يفرضه دورها فى المنطقة وحضورها البارز فى معظم ملفاتها إن لم يكن مجملها. وقد انعكس ذلك بشكل واضح فى الزيارات التى قامت بها، خلال الأسابيع الأخيرة، وفود عربية وإقليمية على أعلى مستوي، من مصر والإمارات العربية المتحدة والأردن والمملكة العربية السعودية وإيرانوسوريا وغيرها، إلى روسيا، للتباحث حول العلاقات الثنائية أو الملفات الإقليمية المختلفة. فضلا عن ذلك، فإن روسيا كانت عضوا رئيسيا فى مجموعة «5+1» التى أجرت مفاوضات مضنية مع إيران حول برنامجها النووى ووقعت معها اتفاقا نوويا فى 14 يوليو 2015، سوف يفرض بلا شك تأثيرات ملموسة على توازنات القوى الاستراتيجية فى المنطقة، خاصة فى ظل التعاون المتصاعد بين روسياوإيران فى المجالين النووى والعسكرى تحديدا. كما أن موسكو تبذل جهودا فى الوقت الحالى من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للأزمة السورية عبر الإعداد لمؤتمر جديد يضم نظام الرئيس السورى بشار الأسد وقوى المعارضة، حيث تسعى إلى استثمار التداعيات التى فرضها الاتفاق النووى من أجل تهيئة المجال أمام تحقيق توافقات سورية وإقليمية قد تؤدى إلى إبرام تسوية سياسية فى النهاية. إلى جانب أنها تبنت مبادرة جديدة لمواجهة الإرهاب فى المنطقة تقضى بتكوين جبهة إقليمية تضم إلى جانبها كلا من السعودية والأردن وسورياوتركيا. وبالطبع، فإن الاهتمام بالشرق الأوسط لا يبدو أمرا غير تقليدى فى السياسة الخارجية الروسية، لكن ذلك لا ينفى أن روسيا باتت معنية، أكثر من أى وقت مضي، بتطورات المنطقة، ليس فقط لأنها باتت تنتج تأثيرات مباشرة على أمنها ومصالحها، لاسيما فيما يتعلق بمواجهة ارتدادات تصاعد العنف فى المنطقة، وإنما أيضا لجهة الحفاظ على علاقاتها الاستراتيجية القوية مع حلفائها الذين يواجهون ضغوطا لا تبدو هينة فى الوقت الحالي، خاصة نظام الرئيس السورى بشار الأسد، الذى اعترف فى الفترة الأخيرة بتناقص موارده البشرية والتسليحية نتيجة استمرار الصراع دون حل، وإعادة تفعيل شراكات استراتيجية مع قوى إقليمية عديدة تتقارب سياستها مع المواقف الروسية تجاه العديد من الأزمات الإقليمية. مصر.. تفعيل الدور أما المتغير الثاني، فينصرف إلى تطلع مصر نحو إعادة تفعيل دورها الإقليمي، باعتبارها قوة إقليمية رئيسية فى المنطقة، رغم الصعوبات العديدة التى تواجهها فى الوقت الحالي. وبالطبع، فإن تطوير شراكة استراتيجية مع روسيا يمثل أحد الآليات الرئيسية فى هذا السياق. وهنا، فإن المسألة لا تتعلق فقط بمحاولة توسيع هامش الخيارات المتاح أمام القاهرة على الساحة الدولية، بعد توتر العلاقات مع الولاياتالمتحدةالأمريكية فى أعقاب اندلاع ثورة 30 يونيو 2013 التى أطاحت بحكم جماعة الإخوان المسلمين، رغم أهمية ذلك، وإنما، وربما يكون ذلك هو الأهم، ترتبط بمحاولة استثمار محفزات التقارب المشتركة مع قوة دولية مهمة تسعى إلى تفعيل حضورها فى المنطقة لاعتبارات استراتيجية وأمنية واقتصادية عديدة على غرار روسيا، من أجل تحقيق مصالح الطرفين. من هنا، اكتسبت الزيارة التى قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسى إلى روسيا خلال يومى 26 و27 أغسطس أهميتها. ففضلا عن أن لقاءه مع الرئيس الروسى فيلاديمير بوتين هو الخامس بين الرجلين والرابع بين الرئيسين منذ فبراير 2014، وهو ما يمثل أحد مؤشرات التقارب بين الطرفين، فإن ما انتهت إليه الزيارة من نتائج يشير إلى أن القاهرةوموسكو فى طريقهما نحو تطوير شراكتهما الاستراتيجية. ملفات رئيسية هذه الشراكة الاستراتيجية تعتمد على التوافق بين القاهرةوموسكو حول أربعة ملفات رئيسية: يتمثل الملف الأول، فى محاربة الإرهاب، إذ يبدو جليا أن الضربات التى تتعرض لها التنظيمات الإرهابية، ولاسيما تنظيم «داعش»، فى العراقوسوريا، خاصة من جانب التحالف الدولى بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، لم تنجح حتى الآن فى وقف تمدد تلك التنظيمات إلى مناطق جديدة مثل ليبيا ووسط آسيا، ولم تحل دون تمكنها من تنفيذ عمليات إرهابية فى دول عديدة على غرار تونس. وعلى ضوء ذلك، يكتسب التوافق المصري- الروسى حول مواجهة الإرهاب زخما خاصا، وهنا فإن الأمر ربما لن يقتصر على دعوة روسيا إلى تكوين جبهة جديدة تضمها إلى جانب السعودية وسورياوتركيا والأردن، والتى تواجه عقبات عديدة لا تبدو هينة بسبب الخلافات الإقليمية المتصاعدة بين بعض تلك الدول، خاصة السعودية وسوريا، فضلا عن عدم تبلور سياسة واضحة تجاه محاربة الإرهاب من جانب البعض الآخر، مثل تركيا، وهو ما دفع القاهرةوموسكو إلى الدعوة لبناء جبهة واسعة لمكافحة الإرهاب بمشاركة دولية وإقليمية، وإنما يمتد أيضا إلى تحرك روسى محتمل لدعم الجيش الليبى فى الحرب ضد تنظيم «داعش»، عبر الدعوة إلى رفع الحظر المفروض على تسليحه، بشكل يمكن أن يساعد فى ضبط الأوضاع المنفلتة داخل ليبيا، وهو ما يتلاقى مع الجهود الحثيثة التى تبذلها مصر لتوجيه انتباه المجتمع الدولى تجاه التهديدات التى يفرضها تصاعد حدة عدم الاستقرار فى ليبيا والتى تستغلها التنظيمات الإرهابية لدعم نفوذها داخل ليبيا وربما التمدد إلى داخل حدود دول الجوار. وربما يمثل التعاون العسكرى بين الطرفين فى مجال التسليح والتدريب وتبادل الخبرات أحد المداخل الأساسية التى يمكن من خلالها تطوير رؤية مصرية- روسية مشتركة لمكافحة الإرهاب الذى تصاعد نشاطه فى المنطقة بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة. فيما ينصرف الملف الثاني، إلى التعاون الاقتصادى بين مصر وروسيا، والذى يحظى باهتمام خاص من جانب الطرفين، وهو ما بدا جليا فى ارتفاع معدل التبادل التجارى بنسبة 84% ليصل إلى 5.4 مليار دولار خلال عام 2014، وفى اتجاه روسيا نحو إقامة منطقة صناعية روسية فى مشروع تنمية قناة السويس، والتشاور حول تفعيل مشروع الصندوق المشترك المصري- الروسي- الإماراتى للاستثمار فى مصر، وإنشاء منطقة تجارة حرة بين مصر ودول الاتحاد الأوراسي. واللافت فى هذا السياق هو أن ثمة اتجاها من جانب الطرفين نحو استخدام العملة الوطنية فى التعاملات التجارية لتجنب تأثير تقلب أسعار الصرف على معدلات التبادل التجاري. وفى هذا السياق، ربما يمكن القول إن ثمة اعتبارات عديدة قد تدفع الطرفين نحو تطوير التعاون الاقتصادي، على غرار سعى القاهرة إلى جذب مزيد من الاستثمارات الروسية، التى ما زالت نسبتها ضعيفة بالمقارنة بالاستثمارات الأخرى إلى جانب رفع معدلات السياحة الروسية، وحرص موسكو على احتواء التداعيات التى فرضتها العقوبات الاقتصادية الأوروبية عليها بسبب الخلاف حول الأزمة الأوكرانية، وهو ما انعكس، على سبيل المثال، فى زيادة استيراد المنتجات الزراعية المصرية بنسبة 8% خلال النصف الأول من العام الحالي. أما الملف الثالث، فيختص بالتنسيق المشترك من أجل البحث فى تسوية سياسية للأزمة السورية التى دخلت عامها الخامس، تعتمد فى الأساس على مرجعية اتفاق «جنيف 2». ومن دون شك، فإن ما يزيد من أهمية هذا التنسيق، هو إصرار القاهرةوموسكو على أهمية الحفاظ على وحدة الأراضى السورية، واستبعاد الخيار العسكرى لحل الأزمة. وقد انعكس هذا التنسيق بشكل واضح فى الجهود التى تبذلها القاهرةوموسكو للوصول إلى توافق مشترك بين قوى المعارضة السورية، حول محاور وآليات تلك التسوية المحتملة، قبل البدء فى الإعداد لمؤتمر جديد يضم النظام والمعارضة، وإن كان ذلك لا يخفى تباينات نسبية بين الطرفين حول هوية بعض التيارات المشاركة فى تلك الحوارات. وبالطبع، فإن ذلك لا ينفى أن ثمة ملفات إقليمية أخرى محل اهتمام مشترك من جانب الطرفين، على غرار القضية الفلسطينية، التى أكدت القاهرةوموسكو محوريتها لتحقيق الاستقرار فى المنطقة، إلى جانب الأزمة اليمنية، والتطورات فى الساحة العراقية. فى حين يتعلق الملف الرابع، بالتعاون التكنولوجي، حيث تواصل مصر وروسيا فى الوقت الحالى التشاور حول إنشاء محطة نووية بتكنولوجيا روسية فى منطقة الضبعة، لتفعيل الاتفاق الذى تم التوصل إليه بين الطرفين خلال زيارة الرئيس فيلاديمير بوتين للقاهرة فى فبراير 2015. وبالطبع، فإن هذا الملف تحديدا يكتسب أهمية خاصة، فى ضوء تطلع كثير من دول المنطقة إلى البحث عن مصادر بديلة للطاقة، وامتلاك برامج نووية للأغراض السلمية، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووى بين إيران ومجموعة «5+1»، والذى أتاح فى النهاية لإيران الاحتفاظ بمختلف مكونات برنامجها النووي، وعلى رأسها مواصلة عمليات تخصيب اليورانيوم. وهنا، فإن روسيا تحديدا تمثل طرفا دوليا يمكن التعاون معه فى هذا المجال، خاصة فى ظل امتلاكها قدرات وتكنولوجيا نووية نوعية، وهو ما يبدو جليا فى اتجاه كثير من دول المنطقة نحو توقيع اتفاقات مع روسيا للتعاون فى المجال النووى على غرار السعودية وتركيا والأردن. ضرورة قصوي إن ما سبق فى مجمله يطرح دلالة مهمة تتمثل فى أن تطوير الشراكة الاستراتيجية بين مصر وروسيا خلال المرحلة القادمة بات يمثل ضرورة قصوى تمليها التطورات المتسارعة فى منطقة الشرق الأوسط، والتى باتت تفرض تحديات لا تبدو هينة على أمن ومصالح كل من القاهرةوموسكو.