يخلص التقرير أن موقف بكين الرسمي من الأزمة اليمنية يقوم على كثيرٍ من الحذر والانتقائية للموازنة بين أطراف الصراع المحليين والإقليميين بهدف الحفاظ على مصالح الصين الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط التي تتطلب حلًّا سلميًّا للأزمة، وقد صوَّتت الصين في هذا الإطار لصالح قرار الأممالمتحدة رقم 2216 الذي يحظر مبيعات الأسلحة للمقاتلين الحوثيين المدعومين من إيران، ودعت بنفس الوقت إلى وقف الضربات الجوية التي تقودها السعودية. وهي تلتقي بذلك مع الموقف الباكستاني الذي أحجم عن التدخل العسكري لصالح السعودية في اليمن لكنه وقف معها سياسيًّا. وهذا لأن بكين ترى -كما أميركا وروسيا- أنه لا ينبغي للصراع في اليمن بأية حال أن يعوق عملية التفاوض الجارية حول برنامج إيران النووي وأن الأولوية هي للتأكد من سلميته والحؤول دون انتشار الأسلحة النووية في المنطقة. مقدمة فاقمت الحرب الأهلية بين الحوثيين والقوات الحكومية ومقاتلي القاعدة، منذ اندلاعها في 19 مارس/آذار، من التوتر في الشرق الأوسط(1)؛ حيث انقسمت ردود أفعال دول مهمة على مستوى الإقليم والعالم؛ فدول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية، باستثناء عُمان، وبدعم من الولاياتالمتحدة الأميركية بادرت إلى تدخل عسكري من خلال توجيه ضربات عسكرية ضد الحوثيين(2). كما دعمت دول أخرى مثل مصر والأردن والمغرب والسودان الضربات الجوية بقيادة السعودية(3)، بينما عارض كل من إيرانوروسيا التدخل العسكري ودعوتا إلى حلٍّ سلمي عبر مفاوضات متعددة الأطراف(4). وحافظ كل من الصينوباكستان على حيادهما بشأن العمل العسكري، غير أنهما دعوتا إلى وقف إطلاق النار وحثَّتا على بذل جهود دولية لحلِّ الأزمة من خلال المحادثات السياسية بدلًا من الحرب(5). يُظهر موقف بكين الرسمي كثيرًا من الحذر والانتقائية حيال الحرب في اليمن؛ إذ كرر الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الصينية دعوة بلاده جميع الأطراف إلى وقف إطلاق النار ودعوة الأممالمتحدة إلى لعب دور قيادي في حلِّ الصراع من خلال المفاوضات السياسية(6). ولم تقدم بكين ما يكفي من التوضيح بشأن موقفها من الصراع، ورفضت أن تنحاز لأي جانب عند إلحاح المراسلين الصحفيين في السؤال عن موقف الصين من التدخل العسكري بقيادة السعودية(7). في الحقيقة، اقتصر تأكيد بكين على أنها تدعم حلًّا سلميًّا يستند إلى قرار مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ومبادرات مجلس التعاون الخليجي، ونتائج مؤتمر الحوار الوطني، واتفاقية السلم والشراكة الوطنية(8). ويُظهر مثل هذا الموقف أن بكين تعمَّدت أن تخفي ميولها السياسية وتسعى لأن تلعب دور وسيط السلام في الأزمة اليمنية، وهو موقف مقبول من جميع الأطراف. وعلى الرغم من ذلك، مارست الصين تأثيرًا على السعودية من أجل وقف الضربات الجوية؛ ففي 18 إبريل/نيسان نشرت وزارة الخارجية الصينية خبرًا على موقعها الرسمي يفيد بأن الرئيس الصيني شي جينبينغ أجرى اتصالًا هاتفيًّا مع الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز ليُعرب عن مخاوف الصين من الأزمة في اليمن ويحث على حلِّ الصراع عبر الوسائل السياسية(9). ويشير النشر المقصود لهذا الخبر، دون سواه، إلى أن أكثر ما يهم بكين هو وقف التدخل العسكري. ومن هنا، فإن موقف الصين لا يُعدُّ محايدًا بالكامل دون أية مرجعيات سياسية، ولكنه بالأحرى يميل بشكل ضمني إلى وجهة نظر كلٍّ من إيرانوروسيا، وهذا يفسِّر الحذر الذي أبدته بكين في تعاملها مع هذه المشكلة. مصالح بكين في المنطقة ترى الصين أن "حماية استثماراتها الاقتصادية وسلامة عامليها في اليمن" يمثِّل أكثر مصالحها عرضة للتهديد نتيجة الحرب الأهلية في البلاد، وبحسب إحصاءات نشرتها وزارة الخارجية الصينية، فإن الصين لديها 14 مشروعًا في اليمن يعمل فيها نحو 460 عاملًا وتتركز في مجالات استخراج النفط، والاتصالات، والإنشاءات، والطرق والجسور، ومزارع الأسماك(10). هذا ويُعَدُّ حجم الاستثمار الصيني في اليمن صغيرًا إلى حدٍّ ما، وكانت بكين بصدد تقويته وتوسيع استثماراتها الاقتصادية هناك، ولكن بسبب تفاقم الأزمة في اليمن، أجْلَت رعاياها وأغلقت سفارتها بشكل مؤقت منذ السادس من إبريل/نيسان 2015(11). وتتخوف الصين من احتمال تعثر طرق إمداد النفط الخام في المنطقة، ليس بسبب إمكانية انقطاع واردات النفط من اليمن، إنما بسبب المخاطر التي قد تنجم عن سيطرة الحوثيين على ميناء عدن وإعاقتهم لممرات النقل البحري في خليج عدن(12). فمن الناحية الاستراتيجية، يعتمد 50% من استهلاك الصين للنفط على الواردات، فهي تستورد 12% من استهلاكها من السعودية، و11% من إيران، و13% من كلٍّ من العراق والكويت وعُمان مجتمعةً(13). لذا تحرص الصين على علاقات جيدة مع كل الأطراف في هذه المنطقة، وتعتبر أن السيناريو الأسوأ هو تطور الصراع العسكري في اليمن بما يؤدي إلى عرقلة طرق نقل النفط عبر ممري هرمز وباب المندب. كما أن احتواء نمو "التشدد الإسلامي" يُعدُّ مصلحة مهمة في سياسة بكين تجاه الشرق الأوسط عمومًا(14). ومع ذلك تتعامل الصين بحذر كبير مع هذه القضية حتى لا يتم تفسير مواقفها بشكل خاطئ سواءً من قِبَل الدول الغربية أو العالم الإسلامي. وعلى الصعيد المحلي، فإن "موجة أحداث العنف" في شينجيانغ (تركستان الشرقية) مستمرة منذ عام 2009، وتدَّعي الصين أن هذه النشاطات "الإرهابية" لها ارتباطات بتنظيم القاعدة(15). وادَّعى مسؤولون صينيون مؤخرًا أن بعضًا من أقلية الإيغور المسلمة الذين انضموا إلى تنظيم الدولة قد عادوا إلى الصين لينخرطوا في نشاطات "متشددة وإرهابية"(16). واستنادًا لخلفية الحرب الأهلية في اليمن، يبدو في حكم المؤكد أن الصين تراقب باهتمام نمو "الإرهاب" داخل اليمن، وتحديدًا بعد أن فقدت حكومة الرئيس هادي سيطرتها الفعَّالة على معظم أراضي البلاد. وعلى الرغم من التقاء مصالحها مع الولايات في محاربة الإرهاب، فإن الصين لم تنضم بشكل رسمي إلى التحالف العالمي الذي تقوده الأولى في "الحرب على الإرهاب"، لأن الصين ترى أن عليها أن تحتفظ باستقلالها في صياغة سياساتها في "محاربة الإرهاب" دون أن تقع في فخ الصدام بين الغرب والعالم الإسلامي(17). أما القضية الأخيرة في هذا السياق فتتعلق بسياسات الدول العظمى؛ إذ من المعروف أن الصين تتبنى استراتيجية توازن ضد السيطرة الغربية في الشرق الأوسط(18)، ومن ذلك أن الصين اعتادت أن تصطف إلى جانب روسيا في الأممالمتحدة للحدِّ من نفوذ الولاياتالمتحدة وحلفائها بشكل استراتيجي؛ فالصين لم تستخدم حق النقض فقط ضد إحالة القضية السورية إلى المحكمة الجنائية الدولية في الأممالمتحدة، ولكنها أيضًا تتبنى وجهات نظر مختلفة فيما يتعلق بالعقوبات على إيران والقضية الفلسطينية، ومع ذلك فإن الصين تقف إلى جانب الغرب لتضمن أن إيران لن تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية. ويَظهر التعقيد الذي تتميز به سياسات الصين تجاه الشرق الأوسط في الطريقة التي تُوازن فيها الصين مصالحها المشار إليها في الأزمة اليمنية، فمن جهة ستستمر الصين في الوقوف إلى جانب كل من روسياوإيران في موازنة الولاياتالمتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط، ومن جهة ثانية، فإن الصين لا تريد أن ترى اليمن مجزَّءًا ومضطربًا لأن ذلك يمكن أن يحوله إلى عامل تفجير في الشرق الأوسط. الاتجاه الحالي في الخارجية الصينية تتبع الصين منذ تسعينات القرن الماضي استراتيجية دينغ شياو بينغ في سياستها الخارجية تحت شعار: "لا يضرُّنا أن ننبطح بانتظار فرصتنا السانحة"؛ وذلك من أجل تحقيق تحديث سريع الخطوات دون استفزاز أو إثارة القوى العظمى التي يمكن أن تعوقه(19)، ويقوم جوهر هذه الاستراتيجية على تجنُّب الصين أي استهداف لها بوصفها قوة تهديد أو تصحيح للوضع القائم على الصعيد الدولي من قبل القوى الكبرى. غير أن صعود الصين في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2009، قد أحدث نقاشًا بشأن تغيير السياسة الخارجية الصينية في أوساط علماء العلاقات الدولية، تركَّز فيما إذا كان تفكير دينغ ما زال يخدم مصالح الصين بالطريقة المثلى. وتحولت هذه النقاشات وغيرها إلى أجندة سياسية جديدة لبكين تحت شعار "نموذج جديد للعلاقات بين القوى العظمى"(20)، ويمكن تفسيرها بطرق مختلفة إلا أنها تتميز عن سياسة دينغ في أن الصين تسلك طريقًا أكثر تأكيدًا فيما يتعلق بانخراطها في السياسات الدولية، حتى إن بعض العلماء يقترحون على الصين أن تُقِرَّ بوضعها كقوة عظمى وأن تتصرف كلاعب مسؤول بدلًا من إنكارها لهذا الدور(21). وفي أعقاب صعود شي جينبينغ إلى هرم السلطة في عام 2013، قامت الصين بخطوات مهمة باتجاه إدماج هذه الأفكار في سياستها الخارجية، ويتجلَّى هذا الاتجاه في ثلاثة من التغييرات التي جرت مؤخرًا؛ أولها: أن الصين تسعى إلى الاشتراك بفاعلية في المؤسسات متعددة الأطراف مثل الأممالمتحدة للانخراط في الشؤون الدولية(22)، وثانيها: أن الصين تنوي زيادة تأثيرها الدولي عن طريق اقتراح مبادرات إقليمية على الصعيد الاقتصادي والسياسي مثل "حزام واحد وطريق واحدة"، و"البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية"(23)، وثالثها: أن الصين باتت أكثر حزمًا فيما يتعلق بالأراضي المتنازع عليها، وخاصةً في بحر الصين الجنوبي من خلال استصلاح الأراضي وتشييد مدرج عسكري ضخم لهبوط الطائرات(24). وبالنظر إلى التغير في السياسة، فإن المصالح الأهم المتصلة بالأزمة اليمنية تتمثل في المقام الأول في تأمين واردات النفط الخام ومن ثم الاعتبارات السياسية في مجال سياسات القوى العظمى. ومن أجل الحفاظ على علاقات ملائمة مع جميع الأطراف المعنية، صوَّتت الصين لصالح قرار الأممالمتحدة رقم 2216 بشأن اليمن، والذي يحظر مبيعات الأسلحة للمقاتلين الحوثيين(25). ولكن في غضون ذلك، حثَّت بكين بشكل علني على وقف الضربات الجوية بقيادة السعودية من أجل معادلة الأثر السياسي لتصويتها في الأممالمتحدة(26). وترغب الصين من ذلك في إيصال رسالة مفادها أنها لم تقف إلى جانب أي طرف ولكنها أكدت في المقابل على أهمية الحل السلمي عبر مفاوضات سياسية متعددة الأطراف. الحسابات الإقليمية اتبعت الصين سياسة متوازنة تجاه الشرق الأوسط وسعت إلى الحفاظ على وضع قائم أساسه "السلْم"، ويشار على هذا الصعيد إلى أحد التداعيات المحتملة للأزمة اليمنية ربطًا بعلاقات الصين مع باكستان حيث رفضت الأخيرة الطلب السعودي بالانضمام إلى التدخل العسكري ضد الحوثيين(27)، وهذا يجعل الرفض الباكستاني يبدو مناقضًا للموقف الصيني من القرار الأممي ضد الحوثيين، إلا أن الحقيقة أن باكستانوالصين تلتقيان في انتقائيتهما في التعامل مع هذه القضية الحساسة وفي عدم اتباعهما لنسق واحد. فرفض باكستان المشاركة في التدخل السعودي يرجع إلى انقسام المواقف المحلية وغياب الإجماع السياسي بشأن دوافع التدخل في الأزمة اليمنية؛ ذلك أن الأقلية الشيعية والجماعات المحلية المسلحة لديها مقاربات مختلفة في قراءة الصراع العسكري داخل اليمن. وفي ضوء ذلك بدت الاستراتيجية الأمثل لباكستان في أن تنأى بنفسها عن التورط في "حرب الوكالة" بين الرياضوطهران، وأن تُظهر بالوقت نفسه موقفًا متعاطفًا ومؤيدًا للسعودية دون أي انخراط فعلي في الصراع الدائر في اليمن. ويتجلَّى مثل هذا الجهد في خطاب رئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف عندما أكَّد أن باكستان والسعودية حلفاء استراتيجيون، وسلَّط الضوء على التفسير الصحيح لقرار البرلمان الباكستاني من أن "باكستان ستدافع عن وحدة أراضي المملكة السعودية" في حال تعرضها للخطر(28). بدا واضحًا أن ما يقترحه شريف هو أن باكستان ستبقى حليفًا قويًّا للسعودية، ولكنها تريد أن تظل على الحياد في هذه القضية نظرًا لأسباب تتعلق بالسياسة المحلية، وتعتقد باكستان أن الأزمة اليمنية ينبغي أن تُحلَّ سياسيًّا وبطريقة سلمية. يُشير التحليل أعلاه إلى أن العلاقة بين الصينوباكستان من غير المرجح أن تتأثر رغم ما يبدو أنه اختلاف في ردود الفعل حيال طلب الدعم السعودي، وسيسعى كلا البلدين إلى لعب دور حيادي وبذل الجهود الدبلوماسية لتصويب ما يمكن اعتباره تفسيرًا خاطئًا لقراراتهما السياسية في أنهما تفضلان أحد الأطراف على حساب الآخر، وعلى غرار ذلك يُرجَّح أن باكستان كانت ستصوِّت لصالح القرار الأممي بشأن اليمن لو كانت عضوًا في مجلس الأمن الدولي. وعمومًا فإن الصينوباكستان ستفعلان الأشياء ذاتها لتصويب ما يمكن فهمه على أنه تفضيل للرياض أو طهران. الحسابات الدولية أحدث صعود الصين مع رئيس واثق مثل "شي جينبينغ" تغييرًا مهمًّا في سياسة بكين الخارجية، وتأسيسًا على ذلك، لا تعتبر الصين الأزمة اليمنية مجرد حرب أهلية أو حرب بالوكالة، لكنها إلى حدٍّ ما ترى فيها صراعًا إقليميًّا له تداعياته الاستراتيجية العميقة على سياسات القوى العظمى، وعلى بكين أن تفكر مليًّا في القضايا ذات العلاقة وكيف يمكن لردود فعلها أن تُفسَّر أو أن يُرَدَّ عليها من قبل القوى العظمى الأخرى. من هذا المنطلق فإن ما يهم الصين في الحقيقة هو المواقف التي يتخذها كل من الولاياتالمتحدةوروسيا وكيف يمكن لهما أن تتحركا بشأن هذه القضية. وما يبدو مثيرًا للاهتمام أن دعم كل من الولاياتالمتحدةوروسيا للتدخل الذي تقوده السعودية في اليمن يبقى "رمزيًّا"، لأنه رغم ما قدمته واشنطن من دعم لوجستي وسياسي للسعودية، فإنها لا تزال -والقوى الخمسة الرئيسية- تفاوض إيران للوصول إلى تسوية بشأن ملفها النووي؛ ما يعني أن قضية الملف النووي الإيراني لها أولوية أكبر في أجندة القوى العظمى مقارنةً بالحرب في اليمن. وتمشيًا مع هذا التوجه، فإن روسيا لم تقف عائقًا أمام القرار وإنما اكتفت بامتناعها عن التصويت لتُظهر موقفها، كما أنها تبنَّت موقفًا مشابهًا للموقف الصيني من الأزمة اليمنية من خلال دعوتها لوقف الأعمال العسكرية وسعيها إلى حلٍّ سلمي عبر المحادثات السياسية. ومن وجهة نظر بكين، فإن القوى العظمى الثلاثة تتشارك في أمور أكثر من تلك التي تختلف بشأنها في مقاربتها للمشكلة الحالية في الشرق الأوسط؛ ذلك أنها تتفق إلى حدٍّ ما على أن الصراع في اليمن لا ينبغي له بأية حال أن يعوق عملية التفاوض حول برنامج إيران النووي، لأن هناك مصلحة استراتيجية لكل من الولاياتالمتحدةوروسياوالصين تلتقي في قضية واحدة ألا وهي ضمان أن يقتصر البرنامج النووي الإيراني على الاستخدامات السلمية وأن لا تنتشر الأسلحة النووية في المنطقة. الجزيرة للدراسات