■ قال لأصدقائه في آخر إجازة: «يا جماعة أنا هموت والله.. إنتم مش مصدقين ليه إنكم مش هتشوفونى تاني» ■ قدم أوراق التحاقه بالجيش دون علم والده.. و«نام» على باب غرفة القائد بالإسماعيلية يتوسل إليه للذهاب إلى شمال سيناء ودع أهالي بورسعيد، الشهيد البطل الجندى «محمد صبرى عبدالعال» 21 سنة، من قوات التأمين بالجيش الثانى في العريش، في جنازة عسكرية مهيبة. «البوابة» كانت حاضرة في جنازة أسد بورسعيد، الذي استشهد برصاص الغدر والخيانة، أثناء حراسته وتواجده في أحد الكمائن الأمنية بمنطقة «الخروبة» على الطريق الدولى المؤدى لغرب مدينة العريش ورفح بشمال سيناء، وخرجت الجنازة من مسجد «لطفى شبارة» بحى الشرق، وحضرها كل من اللواء «مجدى نصر الدين» محافظ بورسعيد، اللواء «محمود الديب» مدير الأمن، وعدد كبير من قيادات الجيش الثانى والضباط والمجندين، وأعضاء الكتلة البرلمانية بالمحافظة، حيث شاهدنا تحول الجنازة إلى مظاهرة ضد الإرهاب الأسود الذي تتعرض له مصر بشكل يومى من خلال عمليات القنص لأبنائها وزرع الألغام في العريش ورفح بشمال سيناء. عشنا لحظات من الحزن المختلط بالدموع من الجميع «أسرته، زملائه، الضباط، والقيادات»، في مشهد مأساوى حول الصغير والكبير إلى الإصرار والعزيمة والحماسة للتصدى، واستكمال المسيرة ضد الإرهاب والقصاص من الخونة المأجورين، في الجنازة سمعنا عبارة «كان فلذة كبدى وسندى في الدنيا» التي كان يرددها بشكل متكرر الحاج «صبرى» والد الشهيد، وكل ما استطاع قوله «إن القلب ليحزن والعين لتدمع لفراقه، وعزائى الوحيد أنه شهيد عند الله لأنه قتل غدرًا أثناء تأديته واجبه لخدمة الوطن»، أما كل ما قالته أم الشهيد «محمد سبقنى إلى الجنة وسألحق به بإذن الله». التقينا بأبناء المنطقة وأقرب أصدقاء الشهيد الذي شهد الجميع بحسن خلقه و«جدعنته» وأكدوا جميهم أن «محمد صبرى» لن يتكرر، الإنسان الذي كان لا يتردد في أن يخدم الصغير والكبير. بداية قال لنا «عماد»، صديق الشهيد: محمد كان أخا لى بمعنى الكلمة، وكنت دائمًا أقول له «إنت ليك أصحاب كتير من ضباط الجيش والشرطة، هات واسطة عشان تتنقل من شمال سيناء»، فكان دائما يرد قائلًا: «لا أنا مبسوط هناك وحابب المكان اللى أنا فيه، وانا بحب الجيش وهقعد هناك، ومش بحب انزل أجازات». مضيفًا: الحاج «صبرى» والده كان هيطلعه من الجيش على حد علمى، لكن «محمد» الله يرحمه راح من وراه وقدم ورقه ودخل الجيش، وكانت مفاجأة كبيرة لوالده، وكل اللى أقدر أقوله إنه كان أطيب بنى آدم مش في بورسعيد بل في الدنيا كلها، والناس كلها بتحبه من الصغير للكبير، لأنه كان بيحترم الجميع. أما زميله وصديقه «أسامة» فقال ل«البوابة»: «مفيش كلام يتقال يعطيه حقه، محمد كان جدع، ويساعد الناس كلها، وأكتر من مرة كنت أقول له يا بنى شوف نفسك وخلى بالك من نفسك، إنت محدش بيشوفك وانت بتخدم الناس وبتيجى على نفسك وعلى مصلحتك عشان خاطر الناس، ولما تيجى تطلب حاجة مكنش حد بيقف جمبك». مضيفًا: «الشهيد كان خدوم وجدع عمره ما اتمنى لحد إلا كل خير، وكان رجل عملى جدًا بيحب الشغل، وكان «دينمو»، وكان غاوى شغل الميكانيكا، ويمتلك محل لبيع قطع غيار «الموتوسيكلات» اليابانية في منطقة بنك الإسكان، وكان مبتكر ومبدع ودماغه شغاله على طول، وعمل تطويرات في مجال الميكانيكا، فكان يحول الأجهزة الميكانيكية والإلكترونية كبيرة الحجم إلى أحجام أصغر الله يرحمه». يقول إسامة: «محمد صبرى التحق بالخدمة كمجند في القوات المسلحة منذ نحو عام، ومن دون علم والده الذي كان يحاول منع دخوله الجيش بأى طريقة، وأول ترحيلة له كانت في كتيبة مدرعات بالقرب من بورسعيد، وكان في مؤتمر أول لقاء للقادة مع المجندين، يومها سأل اللواءات من منكم يرغب في الذهاب إلى العريش، فرفع «محمد» يده وترجى القادة قائلا «أنا يا فندم عاوز اروح سيناء أرجوك»، وتكرر الأمر عدة مرات ويذهب زملاؤه إلى سيناء ويظل هو في مكانه». وأضاف أسامة: «أتذكر أنه قال لى «كل زملائى اللى راحوا سيناء استشهدوا، أنا بطلت أصاحب حد عشان ما يموتش.. مش فاضل غيرى أنا وواحد تانى بس اللى عايشين»، وقبل نقله، علم بأن هناك عددا من زملائه سيذهبون إلى العريش، وأن اسمه مش موجود معهم، فظل يلف على جميع ضباط الكتيبة يتوسل إليهم لنقله إلى العريش كى يأخذ حق زملائه الشهداء أو ليلتحق بهم، لدرجة أنه نام في الفجر على باب غرفة القائد ينتظر خروجه ليترجاه بإدراج اسمه في الكشف مع زملائه الذاهبين إلى شمال سيناء، ومع إلحاحه وإصراره الشديد تمت الموافقة على نقله». عن تفاصيل يوم استشهاده يقول «أسامة»: يوم الواقعة سمعنا أنه أثناء تواجده في خدمته بكمين «بركان 9» في العريش، شاهد عددًا من رعاة الغنم يقومون بزرع ألغام بالقرب من الكمين، لم يتردد البطل فسارع بالجرى نحوهم مُطلقًا رصاص بندقيته لمنعهم، لكن للأسف من يقومون بتلك الأعمال الإرهابية من زرع الألغام يكون لهم غطاء وتأمين من قبل عدد من القناصة، فبمجرد اقتراب الشهيد البطل منهم، تلقى رصاصة في جانبه أسفل السترة الواقية من الرصاص التي كان يرتديها، وهو ما يؤكد أنه عمل احترافى ويعلمون ماذا يفعلون، وأذكر أنه حكى أنه منذ عدة أيام أيضًا شاهد مجموعة يسرحون بأغنام يقومون بزرع ألغام، فقام البطل بإطلاق النار عليهم وفروا هاربين بأغنامهم. يصمت صديقه «أسامة» لحظات ويستطرد قائلًا: «سبحان الله في أجازته الأخيرة وقبل سفره للعودة إلى شمال سيناء، كان قاعد معانا ونظراته لنا كانت نظرات وجع كأنه حاسس إنه مش هيشوفنا تانى، وكان كل ما يمشي؛ يرجع يسلم علينا تانى، هذا المشهد تكرر عدة مرات، ويقول لنا «هتوحشونى أوى، وخلوا بالكم من نفسكم».. ويمشى، وآخر مرة رجع يسلم علينا فاجئنا جميعا وهو بيقول «يا اصحابى أنا هموت»!! فقلنا له «إيه يا عم وحد الله كده» فرد علينا «يا جماعة أنا هموت والله، انتوا مش مصدقين ليه مش هتشوفونى تانى»، وقتها كان والده متفقا معه أن يوصله للجيش، وعندما وصلوا لشمال سيناء، تذكر «محمد» أنه نسى أوراقا هامة تخص الكتيبة، فعاد مع والده مرة أخرى لبورسعيد كى يأخذها، وكان والده موجودا سلم عليه وودعه وسافر.. وكأن القدر منحة فرصة توديعنا مرتين». وقبل استشهاده ب 24 ساعة كلمنى أنا وكل أصدقائه وقال لنا «خلوا بالكم من نفسكم.. وخلوا بالكم من بعض» قلنا له «خلى إنت بالك من نفسك وارجع لنا إنت بالسلامة»، كنا حاسين من صوته إن في حاجة قولناله مالك في إيه قال مفيش حاجه أنا في الخدمة وزى الفل، بس أهم حاجة تخلوا بالكم من نفسكم وحبوا بعض». وأضاف: «علمنا أن الشهيد تم نقله إلى مستشفى العريش، ومنه إلى مستشفى «القصاصين العسكري» بالإسماعيلية، وبمجرد وصول جثمانه قمنا بالصلاة عليه ومشينا في جنازة عسكرية نحو كيلو، وتوجهنا إلى المدفن الخاص بعائلته في منطقة «أبو ضايا»، وكان الشهيد هو الأخ الأوسط بين أشقائه، وكل اللى أقدر أقوله إن الشهيد مش هيتعوض أقسم بالله، الرجولة والنخوة ماتت خلاص من بعده وعمرنا ما هنقابل حد بالنقاء والرجولة دى». أما صديقه وجاره «إسلام السكرى» تاجر قطع غيار سيارات، فقال «حرام كده كل يوم والتانى عسكري يموت في سيناء عشان إيه كل ده، مفيش صباح بيمر غير لما كل عسكري ينطق الشهادتين، محمد كان من أحسن الناس مفيش حد مش بيحبه، أبوه جاب له وسايط كتير حتى يتمكن من نقله لمحافظة بورسعيد ولكن الشهيد أخبره بأنه يشعر بالراحة في سيناء وكان بيخبى عن والده تعبه، وما يراه هناك، والمفروض أن العسكري يتحصن أكتر من كده ويحصل على الراحة، وعن مواقف الرجولة والتضحية بالنفس يقول السكرى «في إحدى المرات كاد أن يسقط ربع سيارة علىّ لكن الشهيد جرى نحوى وحمله على كتفه لينقذنى من موت محقق، ويومها أصيب بتمزق شديد في كتفه وضهره واستمر يعانى من التعب لمدة 14 يوما.. حرام حقه يضيع». أما «حسن» أحد أصدقاء الشهيد فقال ل«البوابة»، «إحنا 5 أصدقاء من ضمنهم الشهيد راجل جدع ومفيش زيه، لكن محمد تركنا ورحل، وقبل استشهاده بيوم واحد تحدث معى تليفونيا واستمر يضحك معى لعدة دقائق، وقبل مغادرته قمت بمصافحته رغم أننى لم أفعل ذلك منذ دخوله الجيش من عام، كل مرة كنت باستقبله أول ما بينزل وعمرى ما ودعته وهو مسافر». وأضاف: «قبل الواقعة بيومين تحدثت معه قبل وبدأت أهزر معه قائلا «إنت وقعت الدبابة، كان في صورة ليك على الفيس بوك بتأكد ذلك، وفى آخر أجازة له طلبت منه عدم الذهاب لسيناء وكان رده: الطلقة كده كده هتجيلى حتى لو كنت قاعد على السرير»، تركنا العزاء والحزن يخيم على أرجاء المنطقة بأكملها، وعلمنا أن المجلس التنفيذى لمحافظة بورسعيد قد وافق على إطلاق اسم الشهيد المجند «محمد صبرى عبدالعال» على أحد شوارع المدينة الباسلة.