∎ عمال وفلاحين و طلبة في مواجهة دستور 1930 ولكن الموجة الأولى من المقاومة والشهداء لم تواجه فقط بالرصاص بل صدر الأمر الملكي في 22 أكتوبر 1930 بإلغاء دستور ,1923 وبحل مجلس النواب والشيوخ، وإعلان الدستور الجديد، ووقع الملك فؤاد على هذا الأمر وعلى الدستور الجديد ووقع معه الوزراء: إسماعيل صدقي، عبدالفتاح يحيى، حافظ حسن، محمد توفيق رفعت، على ماهر، توفيق دوس، محمد حلمي عيسى، مراد سعيد أحمد، إبراهيم فهمي كريم. وصدر في نفس اليوم قانون الانتخاب الجديد منسجما مع الدستور الذى ابتدعه صدقى ووزارته. ويقول د.الدسوقي: ثارت الأمة في مختلف أنحاء القطر المصرى وتحريك كوادر الوفد ضد إلغاء الدستور، والانتخابات المزورة، وحزب الشعب الذى أسسه صدقى لمواجهة الوفد. واستقال ثلاثة أرباع العمد والمشايخ في الريف. وتحالف الوفد مع خصومه السابقين مثل الأحرار الدستوريين دفاعا عن الدستور، وتعرض النحاس باشا للعسف بما في ذلك النوم على كنب محطات السكة الحديدية ودفع الشعب المصري أكثر من (500) ما بين قتيل وجريح في انتخابات مايو 1931واستمرت المظاهرات حتى سقطت حكومة صدقي واستقال في نوفمبر ,1933 وتلتها وزارة عبدالفتاح باشا، ثم وزارة توفيق نسيم باشا، وأمام استمرار المقاومة ألغى الملك فؤاد دستور 1930 في 31 نوفمبر ,1934 ولكنه لم يصدر أمرا بإعادة دستور ,1923 فقام الوفد في ديسمبر 1934 بتنظيم الجبهة الوطنية التي أعلنت عن نفسها 9 يناير 1935 من جميع القوى السياسية، وفي ذات اليوم -كما يروى د.عاصم الدسوقي- صرح وزير خارجية بريطانيا (صموئيل هور) معرباً عن استيائه من مطالبة المصريين بعودة دستور 1923 وقال إن المصريين يحتاجون لتربية سياسية. قامت المظاهرات في 23 نوفمبر 1933 هاتفة: «يسقط هور ابن التور». وكما يروى الرافعي: اندلعت المظاهرات في نواحي القاهرة وبعض المدن احتجاجا على هذا التصريح، وأطلق البوليس النار على المتظاهرين، وسقط أول شهيد في هذه الحوادث وهو إسماعيل محمد الخالع يوم 13 نوفمبر ,1935 وهو أحد العمال الذين كانوا يقيمون السرادق الذى أقامه الوفد احتفالاً بعيد الجهاد، وتجددت المظاهرات الخميس 14 نوفمبر والأيام التي تلته، وكانت أهمها مظاهرة كبرى قام بها طلبة جامعة فؤاد الأول «القاهرة الآن» بدأت من ساحة الجامعة واتجهت إلى القاهرة فقابلها البوليس بإطلاق النار، وقتل من طلبة الجامعة: محمد عبدالمجيد مرسي الطالب بكلية الزراعة والذي كان في طليعة المتظاهرين ومحمد عبدالحكيم الجراحى الطالب بكلية الآداب، وعلي طه عفيفي الطالب بدار العلوم، وقد أصيب يوم 16 نوفمبر وتوفي متأثراً بجراحه في اليوم التالي، وقتل في مظاهرة بطنطا عبدالحميد عبدالمقصود شبكة الطالب بالمعهد الديني، وجرح في ذلك اليوم المئات من طلبة وطالبات المدارس العليا والجامعة. ورداً على ذلك عمت الإضرابات المظاهرات عموم البلاد بقيادة حزب الوفد قائد الجبهة الوطنية، وأمام شلالات الدماء استجاب الملك فؤاد وبعد خمس سنوات لمطلب الجبهة الوطنية وأصدر يوم 12 ديسمبر 1935 قراراً بعودة دستور .1923 * دستور كتب بالدماء والتضحيات يسمى المؤرخون كفاح الشعب المصرى من أجل الدستور من 1930 وحتى 1935 بالثورة الثانية المنسية، على أن الثورة الأولى كانت ثورة 1919 وترى مؤرخة روسية هى برافولفا يوفجينا أنتينوفنا في كتابها الذي يحمل اسم (الثورة المصرية المنسية) دار التقدم- الطبعة الروسية ص94 موسكو 1968 - أن ثورة 1930-1935 هي الثورة الأولى في العالم التي تستمر خمسة سنوات من أجل عودة دستور البلاد، وشارك في هذه الثورة كل طبقات المجتمع، ودفعت من الدماء والتضحيات حوالي خمسة آلاف بين قتيل وجريح ومعتقل، وتستطرد برافولفا قائلة: وعطلت عشرات الصحف وفي مقدمتها روزاليوسف مما اضطر السيدة فاطمة اليوسف إلى إصدار «الصرخة»، كما عطلت صحف أخرى مثل «البلاغ» و«كوكب الشرق» و«اليوم» و«صدى الشرق» و«السياسة»، وحوكم وحبس 22 صحفياً. ومن هؤلاء المفكر محمد حسين هيكل، وفي سلسلة تاريخ المصريين في كتاب «محمد حسين هيكل ودوره في السياسة المصرية» لمصطفى الغريب محمد القصير- إصدار الهيئة العامة المصرية للكتاب 2003 - يقول المؤلف: «يعد ما واجهته صحيفة السياسة - صحيفة حزب الأحرار الدستوريين- في عهد وزارة صدقى باشا من أعنف ما واجهته خاصة بعد أن تحولت إلى المعارضة، ومهاجمة محمد حسين هيكل لصدقي وللدستور 1930 ورغم تعطيل إسماعيل صدقي لكل صحف حزب الأحرار الدستوريين وتقديم هيكل وزملاؤه للمحاكمة إلا أن محمد حسين هيكل لم يقف مكتوف الأيدي فقد أعد كتيباً بالاشتراك مع إبراهيم عبدالقادر المازني ومحمد عبدالله عنان - زميليه في تحرير صحيفة السياسة - يواجهون فيه ديكتاتورية إسماعيل صدقي، وانضم هيكل وحزبه للجبهة الوطنية جنباً إلى جنب مع الوفد حتى سقوط دستور 1930 وحتى عودة دستور 1923». ويجمع المؤرخون على أن هذه الثورة الدستورية شارك فيها الفلاحون والعمد والمشايخ والنساء، ووفق ما ذكرت برافولفا فإن هناك سبع نساء قتلن في المظاهرات من 1930- .1935 الهلال والصليب على طريق الدستور كذلك عارض المجلس الملي العام للأقباط الأرثوذكس دستور صدقي (الأقباط بين الحرمان الكنسي والوطني)- دار الأمين- 1995- بحث للباحث، حيث يذكر الباحث أن المجلس الملى العام أرسل عدة برقيات إلى رئيس الحكومة إسماعيل صدقي يعترض فيها على دستوره، وشارك في هذه الحملة عدد من رجال الدين، وخرجت أكثر من مظاهرة من البطرخانة بالدرب الواسع لتأييد الوفد والجبهة الوطنية في المطالبة بإلغاء دستور 1930 وعودة دستور 1923 واجتمع وجهاء الأقباط مع ويصا واصف وراغب إسكندر وسينوت حنا في القاهرة وفخرى عبدالنور في جرجا ونجيب إسكندر في نادى رمسيس، وكامل يوسف صالح في المنصورة وعدد من الجمعيات والمحامين وطلبة مدارس التوفيق القبطية في بورسعيد والبلينا ومينا القمح وطنطا والمحلة الكبرى وملوي وأسيوط والبحيرة وجرجا وبنها، وعقد اجتماع كبير في الكنيسة البطرسية في ذكرى عيد الجهاد في نوفمبر 1931 حضره نحو 500 قبطي خطب فيه سينوت حنا وأرسلت برقيات ضد دستور 1930 وتطالب بعودة دستور .1923 وخرجت مظاهرة من الكنيسة البطرسية بعد هذا الاجتماع لتلتقى بمظاهرة أزهريين أمام ضريح سعد، وبذلك يكتمل نضال عنصري الأمة. وهكذا يبدو جلياً أن انسحاب ممثلى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والأزهر الشريف من اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور في 2012 ليس موقفاً جديداً بل يحمل كل تراث هاتين المؤسستين العريقتين، حتى وإن حاولت بعض الفصائل الدينية المستحدثة احتكار التعبير عن جموع المؤمنين. ∎ الشيوعيون بين ديكتارتورية ستالين وديكتاتورية صدقى وعن مشاركة العمال في الثورة يحدثنا المؤرخ اليساري د.رفعت السعيد فيقول: اشترك في تلك الثورة الدستورية عمال عنابر السكة الحديد بقيادة الحزب الشيوعي المصري حينذاك، وصادر صدقي مجلة الحزب «روح العصر» التى كان يحررها الدكتور عصام الدين حفني ناصف وعبدالفتاح القاضى بعد أن هاجمت صدقي بضراوة، وكان ستالين في ذلك الوقت قد كتب مقالاً في مجلة «الكومنتيرن» «الأممية» هاجم فيها حزب الوفد المصري، لكن الحزب الشيوعى المصري انشق على ستالين ودافع عن الوفد، مؤكداً على أن الحزب الشيوعي لا يستطيع أن يطالب الطبقة العاملة المصرية في الوقوف ضد الوفد في الوقت الذى يدافع فيه الوفد عن الدستور، مشيراً إلى التناقض الرئيسى ضد السرايا والاحتلال وديكتاتورية صدقي، فما كان من ستالين سوى فصل الحزب الشيوعى المصرى من الأممية، وهكذا عوقب الشيوعيون مرتين مرة من الديكتاتور الروسى ستالين وأخرى من الديكتاتور المصرى صدقى. د. محمد عفيفي أستاذ التاريخ المعاصر يؤكد على أن كل طبقات الشعب شاركت في هذه الثورة، لأن الوفد كان يمثل كل طبقات الأمة المصرية، ويشير د.محمد عفيفي إلى أن الأدب والفن خلدا هذه الثورة 1930- 1935 في أعمال مثل فيلم الأرض، خاصة في مشهد جمع بين الفلاحين والطلاب في السجن، ويذكرنا د.عفيفي بكلمة أبوسويلم: «كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة»، ويعدد د. عفيفي أعمالاً أخرى مثل «القاهرة الجديدة» لنجيب محفوظ، «الشوارع الخلفية» لعبدالرحمن الشرقاوي وغيرها. ويضيف: «كان الطلاب هم الطليعة ولعبوا دوراً كبيراً في عودة الروح، كانت مصر هي البلد الوحيد في العالم حينها الذى تحول فيها الدستور إلى مطلب جماهيري شعبي، من طلاب المدارس الثانوية والعليا والجامعات، ومن عمال العنابر، للفلاحين والعمد ومشايخ القرى، والأزهر والكنيسة، الفقراء والأفندية والبكوات والبشوات، والنساء والرجال». دروس أساسية لللجنة التأسيسية الإخوانية- السلفية ويضيف د.عفيفي أن مصطلح الدستور التوافقى ظهر في تلك الثورة 1930- 1935 لتقدم لنا ثلاثة دروس أساسية هى: أولاً أن المصريين أدركوا أن الدستور لابد أن يكون توافقياً، معبراً عن كل عناصر ومكونات الأمة على قدم المساواة، ولا يوجد كائن من كان مهما بلغت قوته أو سطوته، حتى لو كان تحالف (الملك فؤاد، والديكتاتور صدقى، والمحتل البريطانى) يستطيع تهميش وقهر الشعب وتقديم دستور قطاع خاص. ثانياً أن الدستور ليس مجرد لجنة تأسيسية تعده، بل هو مطلب شعبي ووثيقة تعبر عن عقد اجتماعي يجسد إرادة الشعب. ثالثاً أن الدساتير في مصر لم تكتب إلا بدماء الشهداء والجرحى وتضحيات المشردين والمعتقلين، فثورة 1919 التى أدت لتصريح 28 فبراير 1922 الذي أكد على أن الدستور من حق المصريين، فولد من رحم الثورة دستور 1923 وأيضاً بدماء الشهداء والجرحى عاد دستور 1923 وألغى دستور صدقي بعد خمس سنوات من الكفاح من 1930 وحتى 1935. وبعد.. هكذا يثبت التاريخ أن دستور المصريين – غالبا – مما يكتب بالدماء..