«الإيمان والكفر» سأقف هنا استراحة من القضايا اليومية التى أتعبتنى كثيرا، سأستريح إلى شاطئ قد يريح. سأتحدث عن بديهيات ضاعت فى تاريخ مصر عن الدين الذى أصبح مشكلة بينما هو شوق إنسانى لوأد المشكلات. كانت الأمم قديما تخرب أو تباد بفعل تغيرات طبيعية أو غزو خارجى لكن الآن لم يعد ممكنا هذا الخراب الطبيعى، بعد أن استقر الكون وسيطر عليه الإنسان أو كاد. كما أن مسألة الغزو الخارجى، لم تعد قادرة على خراب أمة من الأمم أو إزالتها، وربما يحدث العكس تنهض الأمم وتقاوم وتنتصر. لم يعد سهلا أن تسحق أمة ما، أمة أخرى وسط عالم مكشوف صغير مهما بدا كبيرا، قطع شوطا كبيرا فى الحفاظ على حقوق الإنسان ويستطيع أن ينتفض ويوقف النزعات الدموية التى قد تخايل أمة ما أو حكام أمة ما، فهل يكون الدين حقًا سببًا فى الخراب كما نرى حولنا؟ نحكى قصته فى مصر لنرى هل هو الدين أم رجاله ومن يستفيدون منه. فى بداية الخلق كان الإنسان وحيدا أعزل أمام طبيعة قاسية متقلبة وحيوانات مفترسة ضارية، ففطن إلى أن هناك قوة أخرى أكبر منه، ومما هو حوله بل وخالقة لهذا كله وضامنة لوجوده ومن ثم فهو إله. كان هذا الإنسان البدائى محدود القدرات العقلية وقدرته العقلية تشخيصية مثل قدرات الأطفال، وليست تجريدية فاختار آلهة من المخلوقات الأخرى المحيطة به يحبها فتعينه أو يخشاها، فيأمن شرها فتعددت الآلهة بحسب المكان الذى يعيش فيه. لكن الإنسان وهو يبنى مجتمعه عشيرة أو قبيلة أو قرية أو مدينة، كان يترقى فى قدراته العقلية، فرأى أن ما اتخذه من آلهة يجرى عليه التغير. يختفى أو يموت فاختار شيئا لا يحدث له ذلك فرفع عينيه بعيدًا إلى السماء وعبد الشمس والقمر والنجوم والكواكب، فهى على الأقل لا تستطيع أى قوة منظورة أن تهزمها. ثم إنها إذا اختفت تعود. وأعطى هذه الظواهر الآلهة أسماء وجسدها فى رموز فى الوقت الذى كانت قدرته على تنظيم مجتمعه تزداد واختراعاته تساهم فى إخضاع الطبيعة بشكليها المادى والحيوانى له ولرغباته، وتزداد أيضا قدرته على التجريد، ففكر فى إله واحد خالق هذا كله. إله لا يتغير أو يزول. ولأنه لا يستطيع أن يرى هذا الإله فلقد صار فكرة استقرت فى الروح، ومن هنا جاء الإيمان. خلال هذه الرحلة ابتدع الإنسان الأساطير حول الآلهة، وحول خلق العالم واحتاج فصل الإله الواحد الأحد عن الطبيعة والبشر إلى آلاف السنين، كان فيها الإنسان قد استقر فى مجتمعات كبيرة مصر وبابل مثلًا، ووضع لها النظم والقواعد والقوانين، وترقت قدراته التجريدية أكثر، فانفتح طريق الأديان السماوية، وظهر الأنبياء الذين سبقهم العشرات من المصلحين. لم يكن الناس قبل الأنبياء كفارًا، لكنهم صاروا كذلك بعدهم إذا خذلوهم أو رفضوهم، فى رفضهم كفر بيّن لأنهم يقفون أمام تطور العقل البشرى والمعرفة البشرية التى لم يظهر بينها الأنبياء، إلا لأنها صارت مستعدة لذلك بعد تطور كبير فى قدرة العقل على التجريد. وهذا يفسر لك لماذا لم تنزل الرسالات السماوية الكبرى اليهودية والمسيحية والاسلام قبل إخناتون مثلًا ودوره فى الإصلاح الدينى وقوله بالإله الواحد وهو الشمس. الله سبحانه وتعالى كان قادرًا أن يأتى بالأنبياء أصحاب الرسالات قبل موعدهم بآلاف السنين، لكن لو حدث ذلك لم يكن ليزيد عما جرى للمصلحين قبلهم الذين كانت رسالاتهم محدودة فى قراهم أو مدنهم، وكان من الصعب أن تنتشر فى بلاد أخرى لا تزال فيها قدرة العقل على التجريد غير ناضجة، أو غير مهيأة لهذا التوحيد النهائى، ومن ثم كان الفشل سيلحق برسالاتهم. لقد احتاجت هذه الرسالات السماوية الكبرى إلى عشرات المصلحين قبل الأنبياء، وإلى تقدم كبير فى قدرة العقل على التجريد، وإلى استقرار أكبر فى شكل المجتمع والحياة على الأرض، ومن ثم صار ناكرو هذه الرسالات كفارا، لأنهم يجحدون هذه النعمة الجديدة، إله واحد للكون قادر ومسيطر وهم هكذا يتعامون عن حقيقة تهيأ لها العقل البشرى، وهذا هو المعنى العميق للكفر، فالكافر هو الذى ينكر نعمة الله ولا يراها وهى أمامه. هذا معنى الكفر فى اللغة العربية، ولذلك سمى العرب القرى البعيدة فى مصر كفورًا لأن لا أحد يراها.