انطلاقاً من الإيمان بالإله الواحد الأحد. الفرد الصمد. الذي "لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد". الذي خلق الإنسان وعلمه البيان. آمنت الحضارة الإسلامية بوحدة رسالة السماء. وبالأخوة بين الأنبياء وبين الناس جميعاً. ومن ثم آمنت بوحدة التراث الإنساني فجمعته من مختلف مصادره. وغربلته بمعيار الإسلام ثم أضافت إليه إضافات أصيلة. وظلت تلك الحضارة الفريدة في تاريخ الإنسان تحمل مشاعل المعرفة في كل منحي من مناحي الحياة لأكثر من أحد عشر قرناً من الزمان. وكانت المحضن الذي انطلقت منه شرارة النهضة العلمية والتقنية المعاصرة. ولكن هذه النهضة المعاصرة علي الرغم من إنجازاتها العلمية والتقنية المذهلة فإنها انتكست في جوانبها الدينية والأخلاقية والسلوكية لأنها رفضت الإسلام ديناً. وحصرت نفسها في الأطر المادية وحدها فوصلت إلي ما وصلت إليه من تقدم علمي وتقني مذهل. رافقه انحسار ديني وأخلاقي وسلوكي مذهل كذلك. تسبب في إفساد بيئة الأرض. وفي تكدس الأسلحة التقليدية وغير التقليدية "ومنها أسلحة الدمار الشامل". كما تسبب في استنفاد ثروات الأرض الطبيعية. وفي إغراق الأرض في بحار من الدماء والأشلاء والخراب والدمار بالحروب الساخنة والباردة التي شنتها ولا تزال تشنها الدول الصناعية الكبري من أجل الاستحواذ علي مصادر النفط والغاز والثروات المعدنية والمائية المتعددة. ومن أجل الهيمنة علي غيرها من الأمم. وفي ظل هذا الضياع الديني والأخلاقي والإنساني تنكرت الثورة الصناعية المادية المعاصرة للدور البناء الذي قامت به الحضارة الإسلامية علي مدي أحد عشر قرناً أو يزيد. والذي لولاه ما كانت تلك الثورة الصناعية. لذلك فإننا نستعرض هنا دور الحضارة الإسلامية في مجال العلوم البحتة والتطبيقية وأسباب تنكر الحضارة المعاصرة له. تنبيهاً لعقلاء من أبناء المسلمين حتي لا ييأسوا من إمكانية نهضة العالم الإسلامي من جديد من أجل استعادة المسلمين لدورهم الحضاري. ونصحاً للعقلاء من أبناء الحضارة المادية إلي أن الإنسان ليس كياناً مادياً فقط. بل هو كيان روحي عاقل. وكما يحتاج إلي تلبية احتياجاته المادية. فإنه يبقي أكثر حاجة إلي الغذاء الروحي وإلا عاش في هذه الحياة أعرج تعيساً. تائهاً ضائعاً مدمراً. وغادرها صفر اليدين من الأعمال الصالحة. مثقلاً بالمسئوليات والتبعات والسيئات فخسر الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. ومن أجل تجديد الأمل عند الشباب من أبناء المسلمين وتحقيق إصلاح المسار عند غير المسلمين أقول إن للمعرفة الإنسانية عند المسلمين مصدرين رئيسيين: هما الوحي السماوي المنزَّل من الخالق سبحانه وتعالي . والعلوم المكتسبة في مختلف مجالات المعرفة والتي تجمعت عبر الأجيال المتعاقبة من السلالة البشرية إلي اليوم.. والوحي السماوي نزل بياناً للناس من خالقهم. في القضايا التي يعلم هذا الخالق العظيم بعلمه المحيط عجز الإنسان عجزاً كاملاً عن الوصول فيها بجهده منفرداً إلي أية تصورات صحيحة وذلك من مثل قضايا العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملات. وهي تشكل ركائز الدين. وعلي ذلك فإن الوحي السماوي في هدايته للبشرية يتعرض لعلاقة الأفراد بخالقهم. ولعلاقة كل فرد منهم بكل من ذاته وأهله وذوي قرباه. وبمجتمعه. وأمته. وبالأسرة الإنسانية كلها علي اختلاف ألوانها ومواطنها وألسنتها. أما ما عدا ذلك من أمور الكون المادية. وصور الحياة فيه. وما يحكم ذلك من قوانين لا تتبدل ولا تتغير. ولا تتوقف ولا تتخلف. فقد ترك لاجتهاد الإنسان وتحصيله. ووسيلته في ذلك عقله وحواسه. وهما علي روعتهما محدودان بحدود قدرات الإنسان. وبحدود مكانه "علي الأرض" وزمانه "أي عمره". وكلها حدود جعلت منجزات الإنسان في حقل المعارف المادية المكتسبة تأتي حثيثة بطيئة. لها طبيعة تراكمية. فتتضاعف مع الزمن. ومع نمو الحاجة إلي العرفة. وتزايد الرغبة في الوصول إليها إشباعاً لتلك الفطرة الطيبة التي غرسها الله تعالي في الجبلة الإنسانية. ألا وهي حب الحق. وحب التعرف عليه. والتي يعبِّر عنها أحياناً بحب الاستطلاع. وحب الجري وراء كسب المعرفة. وهنا تجدر الإشارة إلي أن للمسلمين في قضية المعرفة الإنسانية موقفاً خاصاً ينطلق من الإيمان بأن الإنسان بدأ عالماً عابداً. بينما يؤمن غير المسلمين خاصة المهتمين منهم بما يسمي اليوم باسم الدراسات الإنسية "الانثروبولوجيا Anthropology" بأن الإنسان بدأ جاهلاً كافراً. أبكم يتخاطب بالإشارة حتي تعلم الكلام من أصوات الحيوانات المحيطة به. ثم أخذ في التعرف علي الكون وظواهره التي أرعبته في باديء الأمر فعبدها. وتدرج في تلك العبادة الوثنية» حتي وصل إلي القناعة بعبادة خالق الكون. فعبد الله تعالي بمناهج مختلفة من تصوراته القاصرة. وتدرج الإنسان في التعرف علي الظواهر والسنن الكونية. وأخذ في توظيفها في عمارة الحياة علي الأرض فتعلم العلم وتطبيقاته في الحياة العملية. وهو ما يعرف باسم "التقنية". وعلي النقيض من ذلك فإن أسس المعرفة الإنسانية عند المسلمين تتمثل في ذلك العلم الوهبي. الذي وهبه الله تعالي لأبي البشرية سيدنا آدم "علي نبينا وعليه الصلاة وأزكي السلام" والذي يتلخص في قوله تعالي : "علم آدم الأسماء كلها..." البقرة: .31 وعلي ذلك فإن الإنسان في الإسلام خلق عالماً عابداً ناطقاً متكلماً. يعرف ربه الذي خلقه. والذي استخلفه في الأرض لرسالة محددة ذات وجهين أولهما: عبادة الله تعالي بما أمر. وثانيهما: حسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة شرع الله وعدله فيها.. والإنسان بعد انقضاء أجله علي الأرض ليس له إلا الموت. وحياة البرزخ في القبر. ثم البعث والحشر والحساب والجزاء بالخلود إما في الجنة أبداً أو في النار أبداً. وانطلاقاً من ذلك فإن الإنسان في الإسلام خلق عالماً. عابدا. عارفاً من الذي خلقه واستخلفه في الأرض. وعالماً بتفاصيل رسالته فيها. وبكيفية تحقيق تلك الرسالة علي الوجه الذي يرتضيه خالقه. ومؤمناً بمصيره بعد هذه الحياة. وعاشت البشرية عشرة قرون كاملة "بين كل من نبي الله آدم ونبي الله نوح عليهما السلام" علي التوحيد الخالص لله تعالي إلي أن جاءت الشياطين إلي نفر من قوم نوح فأغوتهم بعبادة الأصنام فأرسل الله تعالي إليهم عبده ونبيه نوح عليه السلام ليردهم إلي التوحيد من جديد فما آمن معه إلا قليل. ولذلك أرسل الله تعالي الطوفان علي قوم نوح فأغرقهم ونجي عبده نوحاً والذين آمنوا معه. وظلت البشرية يتعاورها الإيمان والكفر. والتوحيد والشرك إلي يومنا الراهن. وسيبقي الحال كذلك إلي قيام الساعة.. وكلما عاشت البشرية وفق الهداية الربانية كلما سعدت وأسعدت. وكلما ضلت عن دين الله كلما شقيت وأشقت. وعاش بنو ادم علي الأرض لفترة تقدر بحوالي الأربعين ألف سنة تخللها إرسال أكثر من مائة وأربعة وعشرين ألف نبي. واصطفاء ثلاثمائة وبضعة عشر رسولاً من بين هذا العدد الكبير من الأنبياء. وكان لابد من وجود خاتمة لعملية الهداية الربانية لإنسان.. وكانت الخاتمة بعثة الرسول الخاتم سيدنا محمد بن عبدالله. ذلك النبي العربي الأمين صلوات ربي وسلامه عليه ولما كانت رسالته هي الرسالة الخاتمة فقد تعهد ربنا تبارك وتعالي بحفظها في نفس لغة الوحي بها "اللغة العربية" فحفظت وتعهد الله تعالي بهذا الحفظ تعهداً مطلقاً تحقيقاً للعهد الذي قطعه علي ذاته العلية فقال عز من قائل : "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الحجر:.9