ليست وسائل النقل بعيدة بأي حال من الأحوال عن ثقافة أي مجتمع وتطوره بقدر ما تشكل أشارات دالة "لسكك الزمان والمكان"، وقد تكون أحيانا دافعا لكتب طريفة أو دراسات تدخل في مجال التاريخ الثقافي. ولئن كان الكاتب الروائي المصري الراحل عبد الحميد جودة السحار قد تطرق في سيرته الذاتية لترامات القاهرة بل واسترجع شخصية شهيرة في "عالم الفتوات القاهري القديم"، وهو فؤاد الشامي الذي كان يعمد "كصبي شقي" للوقوف بدراجته امام الترام مما يتسبب في ارباك السائق، فإن "قطار الدلتا" ورد في عديد من الأعمال الروائية والقصصية المصرية وهو القطار الذي كان يتحرك ببطء بين قرى ومدن الوجه البحري. وفي راهن الأيام يبدو أن اهتمام اغلب الصحف ووسائل الإعلام موجه لمسألة أسعار تذاكر القطارات والمترو، وها هي جريدة "الشروق" القاهرية قد نقلت في عددها الصادر امس "الأحد" عن وزير النقل سعد الجيوشي تأكيده على عدم زيادة سعر تذكرة مترو الأنفاق. ووفقا لهذه الصحيفة فقد أشار الجيوشي إلى أنه لا يمكن زيادة قيمة التذكرة قبل رفع مستوى الخدمة المقدمة للركاب وضمان جودتها وتميزها والانتهاء بشكل كامل من أعمال الصيانة الشاملة وتقليل فترة التقاطر بين القطارات. وفي القاهرة تعد رحلات الأوتوبيس النهري متعة لهواة التأمل بقدر ما هي "متعة البسطاء"، كما انها باتت جزءا من طقوس الاحتفالات بالأعياد لدى القاهريين على امتداد نحو 50 كيلومترا من جنوب حلوان وحتى القناطر الخيرية. واذا كانت مدينة كالإسكندرية اشتهرت بالقطارات والترامات الملونة فها هو مثقف عربي من سوريا الجريحة يكاد يتغزل في ألوان قطارات طوكيو حيث يقول محمد عضيمة في كتاب طريف حقا حول قطارات العاصمة اليابانية: "تفاجئك القطارات بألوانها: الأحمر، الأصفر، البرتقالي، الزهري، الفضي، البيج، الأخضر، الأخضر الفاتح، البنفسجي.. مهرجان ألوان متنقل على طول المدينة وعرضها، فوقا وتحتا، يوميا من الخامسة صباحا وحتى الواحدة بعد منتصف الليل". وقد انتشر مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي في الشبكة العنكبوتية مؤخرا حول ما وصف "بأكبر أزمة مرور على وجه الأرض"، وكانت في الصين وذلك عقب نهاية العطلة السنوية في البلاد وعودة ملايين السيارات إلى العاصمة بكين. ويظهر هذا المقطع المصور من طائرة حجم المأساة المرورية عندما توقف طريق سريع مكون من "50 حارة"، غير أن وسائل النقل حتى في أزماتها تتيح أنواعا متعددة من التواصل بين البشر وقد تفتح أبوابا للتعارف وحتى للزواج! وفي كتاب صدر بعنوان "عيد ميلاد الأسمنت" يتناول المؤلف محمد عضيمة وسائل النقل وخاصة القطارات أو "المترو" في العاصمة اليابانية طوكيو ليقدم للقاريء لوحة تنبض بالحياة والدهشة والشجن والطرافة، مشددا على أن طوكيو المعاصرة تدين بالكثير من أوجه تطورها لشبكات السكك الحديدية التي تخترقها ولا نظير لها في العالم. المؤلف وهو كاتب ومترجم من سوريا يقيم في طوكيو يقول عن العاصمة اليابانية: "تفاجئك بكثافة قطاراتها فوق الأرض وتحتها، وتفاجئك القطارات بكثافة ركابها ويفاجئك الركاب بسلوكهم فتظل هكذا مشدوها لا عمل لك سوى الدهشة من هذا القطار أو من ذاك الراكب أو ذاك السلوك". كأنه يخاطبك والحقيقة أنه يخاطب ذاته: "الواقع هو أنك وأنت ذاهب إلى العمل لا عمل لك سوى ركوب القطارات وتبديل المحطات لمدة ساعتين أو أكثر أو أقل وأنت في هذا لست نشازا، أو مخالفا لشيء أو لأحد، فالجميع هنا حلفاؤك في القفز من محطة إلى أخرى ومن قطار إلى قطار". وفي هذا الكتاب الذي يمكن وصفه بحق بأنه من الأعمال الثقافية العربية النادرة التي تتمحور حول وسائل النقل "كسكك للزمان والمكان"- يضيف محمد عضيمة: "هم حلفاؤك أكثر في السير ببطء شديد لزحمة الأقدام أثناء الهبوط ومغادرة القطار.. جميع حلفائك هنا خبراء قطارات وتبديل محطات.حتى انت لم تعد غريبا على هذا الصعيد وصرت واحدا من الحلفاء المعدودين على ارصفة خمس أو ست محطات ترتادها في الذهاب والاياب". ويواصل عضيمة تأملاته فيقول: "تعتاد على رواد كل محطة وتتعرف على الوجوه وحتى على الثياب إذا كان صاحبها قد ارتداها بالأمس أو قبل أسبوع لأنك تقابل الوجوه نفسها كل يوم في التوقيت نفسه، هكذا تنعقد فوق أرصفة هذه المحطات قصص وحكايات بعضها صامت تنسجه لغة العيون ينتهي إلى النطق والحب والزواج". وكما هو الحال في المدن الكبرى مثل القاهرة تعاني قطارات طوكيو من الزحام والتزاحم بين الركاب كما يشير هذا الكتاب الطريف:"يفاجئك الركاب أحيانا بسلوكهم في التنافس على أماكن الجلوس فالمزاحمة من أجل مكان ليست جريمة بل هي جزء من لعبة هذا الفضاء في بلاد الشمس المشرقة". لكن هذه المزاحمة لها شروطها وظروفها التي يوضحها محمد عضيمة بقوله: "إذا كانت المحطة نقطة انطلاق أولى لقطار فارغ تماما تحتاج إلى الوقوف بصمت وأدب وقليل من النحنحة بين العشرة الأوائل من أي طابور يترصد فوق رصيف المحطة وصول القطار وانفتاح الأبواب". ولكي تكون بين هؤلاء العشرة عليك-كما يوصيك مؤلف الكتاب- الوصول باكرا وقبل الآخرين إلى موقف أحد الأبواب أو الانتظار في المكان نفسه وتأجيل الصعود إلى القطار التالي، وحتى هؤلاء العشرة لا ينجحون جميعا لأن هناك مثلهم على مواقف ثلاثة أبواب مجاورة! وما أن تستقر عجلات القطار وتنفتح الأبواب حتى ينزلق الواحد برشاقة لاعب مصارعة رومانية ليستقر في المكان ويتنهد تنهد امريء أنهى لتوه معركة فاصلة في تاريخ اليوم حسب وصف محمد عضيمة الذي يواصل قائلا لذاته: "كم مرة قلت لك كف عن هذه المتعة في تأملهم وهم يتزاحمون وكأن لا شغل لديك سوى التأمل والشرود، اصطياد المكان أيها الغريب الأجنبي أهم مما تفكر به الآن"! تكون المنافسة من أجل ستين مكانا تتوزعها مقاعد طويلة على جانبي المقطورة ويتسع المقعد منها لثمانية أشخاص متلاصقين متراصين والواقع أن هذه المنافسة كما يوضح مؤلف الكتاب "لا تكون في رأس الجميع بل هي محصورة بأصحاب المسافات الطويلة بمن عنده ساعة وأكثر للوصول وهؤلاء هم الغالبية العظمى حسب جميع التقديرات". ثم أن قطارات طوكيو مبنية على أساس الوقوف لا الجلوس لأنه يستحيل تأمين المقاعد لهذا الكم المليوني المتنقل من والى الشركات، والقطار هو وسيلة النقل الوحيدة لأغلب الموظفين وهاهو مؤلف الكتاب يعزي نفسه جراء الإخفاق في الجلوس:"لا أمل لك قطعا في الجلوس أن لم تكن من زبائن إحدى محطات الانطلاق لكن لا تيأس فتلاصق الواقفين بعضهم ببعض لشدة الازدحام يكاد يشبه الجلوس، فالواحد يسند الآخر". يتساندون ثم يتكاتفون "ولذا يمكنك دون مبالغة أن تغفو على كتف الجار قليلا.في البداية قد يكون الأمر صعبا لكن ستعتاده مع الوقت ومرور الأيام" كما يؤكد هذا الكتاب الذي يشير أيضا لوجود "ظاهرة التحرش" المؤسفة في قطارات طوكيو. لكل ياباني يسكن هذه المدينة التي لايعرف السوري محمد عضيمة اين تبدأ واين تنتهي حكاية يومية مع القطار في الصباح والمساء وفي الذهاب والاياب اما غير الياباني والذي لايجيد اللغة اليابانية فألوان القطارات تشكل دليلا إلى خط سيره. وانطلق مؤلف الكتاب بالقطارات ومن القطارات ليتحدث عن طوكيو أو "المدينة التي تفاجئك اينما كنت بالكثافة، كثافة بشر وأبنية ومحطات وقطارات، وكثافة سلوك حضاري راق..تفاجئك رويدا رويدا وتستهويك بكل هدوء والأجمل انها لا تشبهك فلا تعتدي عليك.هذه طوكيو بشيء من الاختصار. لذلك تفتح لها عوض القبر قلبا واسعا لكل جميل وعقلا واسعا لكل غريب". ويستعرض المؤلف طرفا من حياته الماضية عندما كان من قاطني باريس وقبلها من قاطني دمشق وقبل دمشق من قاطني جبلة على الساحل السوري مسترجعا بالحنين "أخلاق باصات دمشق" في زمن مضى وقيام الرجال والشباب من مقاعدهم لتجلس النساء. تأملات هذا المثقف العربي السوري في قطارات طوكيو ثم كثافة المدينة قادته لجزء من فلسفة العقل الياباني وهو "إلغاء المركز كمفهوم وكواقع واشباع السوق بكل ما يحتاجه الفرد اينما حل وسكن" موضحا:"لا وجود لمركز إذا ابتعدت عنه فأنت بعيد عن كل شيء: أحياء المدينة جميعها مركز حتى لا يغار مركز من مركز" !. والمدن اليابانية جميعها طوكيو، حتى لا تغار مدينة من طوكيو أي كل منها موجز عن العاصمة واليابان كلها موجز عن العالم "عالم صغير يحل فيه العالم الأكبر" وهذه هي الفلسفة التي دوخت الغرب وشوشت مفهومه المركزي للعالم والأشياء. ويرى محمد عضيمة أن الغرب سيدفع ثمنا غاليا إن لم يسرع ويستفد من الثقافة اليابانية في التخلي عن الأنانية المركزية لافتا إلى أن الفلسفة اليابانية في التجاور والتعايش حتى في المعمار وانعدام المركز وعدم إلغاء أي شيء على حساب شيء آخر تكاد تنسحب على جميع مناحي الحياة في هذا البلد. ولعلنا في هذا البلد بحاجة لكتاب يتناول بعمق وطرافة تطور وسائل النقل حتى راهن اللحظة..كتاب يمكن أن يشكل وثيقة من وثائق التاريخ الثقافي المصري مثلما فعل هذا المثقف العربي السوري عندما تحدث عن قطارات طوكيو أو سكك الزمان والمكان في عاصمة اليابان!