«إيكارو لورمان» مواطن من كينيا وجدوه مقتولا فى العراء.. فمن قتله؟ هذا السؤال شغل الصحفى الأمريكى كريستيان بارينتي، حائز جائزة «إيمى» للصحافة الوثائقية، أثناء زيارته للشمال الغربى من كينيا، وفى بحثه عن الإجابة، اكتشف أن آلاف الكينيين يقتلون مع اشتداد الجفاف لأنهم يضطرون إلى السرقة كى يعيشوا، ووفقا للتقاليد هناك «من يسرق يقُتل». إذن قُتل الرجل بسبب المناخ، فهل هناك علاقة بين المناخ والعنف؟ فى بحثه عن الإجابة، صنع «بارينتى» كتابه «مدار الفوضى.. تغير المناخ والجغرافيا الجديدة للعنف»، ويربط الكتاب موضوع تغير المناخ بالصراع الاجتماعى والعنف السياسي، ويقصد ب «مدار الفوضى» ذلك الحزام على طرفى خط الاستواء؛ بين مدار الجدى ومدار السرطان، والذى تشهد دوله صراعات عنيفة وحروبا أهلية وجريمة منظمة، وهى المنطقة نفسها التى يضرب فيها تغير المناخ بقوة أشد من خلال دورات الجفاف، وتكرار الفيضانات، وحروب الطقس العنيف. ويبنى المؤلف رؤيته على مصادر رئيسية، ففضلا عن رحلاته الاستقصائية يشير إلى دراسات علمية تؤكد أن المناخ يؤثر مسبقا بشكل سلبى على 300 مليون من البشر فى العام، مسببًا مقتل 300 ألف منهم، وأنه بحلول عام 2030 (مع تحول الفيضانات وحالات الجفاف وحرائق الغابات والأوبئة الجديدة) يمكن أن يُقتل 500 ألف من البشر كل عام بسبب التغير المناخي، ويمكن أن تصل الكلفة الاقتصادية لهذه الكوارث إلى 600 مليار دولار كل عام. وتتنبأ دراسة، عن معهد الأرض بجامعة كولومبيا، أن 700 مليون لاجئ مناخى سوف يُهجَّرون بحلول العام 2050. يأخذنا الكاتب إلى الدول التى تقع فى حزام ما بين مدارى الجدى والسرطان عبر القارات الثلاث؛ فيبدأ من كينيا ومنطقة الساحل فى شرق إفريقيا حيث يتفاعل الجفاف مع إرث الحرب الباردة، والسياسات الليبرالية الجديدة فى تأجيج العنف هناك. ثم يتوجه إلى آسيا الوسطى حيث يبين تأثير الجفاف وأزمة المياه على الحرب فى أفغانستان، والصراع بين الهند وباكستان، والحرب الأهلية فى قرغيزستان، وأخيرا يتحول إلى أمريكا اللاتينية ليبرز دور تغير المناخ فى نشوء الجريمة المنظمة فى مدن البرازيل الكبرى، وازدهار تجارة المخدرات والهجرة فى المكسيك. وفى حين يرى كريستيان بارينتى أن تغير المناخ عامل رئيسي فى «الجغرافيا الجديدة للعنف»، يعظم من عوامل أخرى موجودة مسبقا فى هذه الدول، أطلق عليها التجمع الكارثي؛ أى «التلاقح بين الكوارث السياسية والاقتصادية والبيئية»؛ حيث تستجيب المجتمعات المتضررة للأزمات الجديدة بطرق غير عقلانية وقصيرة النظر ومدمرة، وفى حالة التغير المناخى كانت الصدمة المسبقة التى هيأت الطريق لتكيف سيئ واستجابة اجتماعية مخربة، هى العسكرة فى مرحلة الحرب الباردة، وتبنى المسارات الاقتصادية الليبرالية الجديدة للرأسمالية، خلال السنوات الأربعين السابقة شوهت كل من القوتين علاقة الدولة بالمجتمع؛ مزيحة وظائف الدولة الجمعية والتنظيمية، وتلك المتعلقة بإعادة توزيع الثروة وناسفة إياها، بينما طورت من قدراتها القمعية والعسكرية، وهو ما يرى المؤلف أنه يثبط من قدرة المجتمع على تجنب الاختلالات العنيفة مع بدء تأثير التغير المناخى. لكن هل هذا هو كل ما فى الأمر؟ المسألة أكبر من ذلك؛ أو كما يقول «ت. س. إليوت» فى قصيدة «الأرض الخراب»: (هناك ظل تحت هذه الصخرة الحمراء، تعال إلى ظل هذه الصخرة الحمراء، سأريك شيئا مختلفا عن ظلك، وهو يسير خلفك فى الصباح، أو عن ظلك، وهو يقف للقائك فى المساء؛ سأريك الخوف فى حفنة من تراب)؛ فقد زرعت الحرب الباردة بذور عدم الاستقرار فى العالم الثالث، وتركت حروبها العديدة بالوكالة فى الدول النامية تراثا مكونا من مجموعات مسلحة وأسلحة رخيصة وشبكات تهريب. ودفعت السياسات الاقتصادية لليبرالية الجديدة (الخصخصة المتطرفة ورفع التحكم الاقتصادي) التى فرضت من قبل صندوق النقد الدولى والبنك الدولى على اقتصادات عديدة فى العالم الثالث- خصوصا عالم الجنوب- نحو أزمة دائمة، وعدم مساواة شديدة. فى هذه المجتمعات تحولت الدولة إلى صدفة فارغة خالية من أى قدرة مؤسساتية هى بحاجة إليها لتوجيه التطور الاقتصادى أو معالجة الأزمات الاجتماعية. [email protected]