«سبق وقيل كل شيء، لكن.. بما أنه لا أحد يستمع، فعلينا تكرار كل شيء من البداية».. هكذا قال أندريه جيد فى سياق ربما يكون مغايرا للسياق الذى نتناوله هنا، لكن عبارة «جيد» مناسبة تماما الآن، إذا ما أسقطناها على الحالة المتردية التى وصلت لها وزارة الثقافة، والتى ارتفعت معها أصوات المثقفين والفنانين للمطالبة بالتغيير والتطوير وإعداد خطة حقيقية تقدم حلولا عملية لمواجهة الأفكار الظلامية التى كادت أن تعصف بالوطن. انتظر المثقفون والكتاب ومعهم قطاعات واسعة من المهتمين بالثقافة والمؤمنين بالأيادى البيضاء للفن وقدرته على إخراج الأمم من الجهالة والرجعية، أن تكون وزارة الثقافة والمثقفين إحدى أدوات الدولة لتحقيق نهضة مجتمعية وثقافية، وفتح آفاق أرحب لاستيعاب الآخر والتعايش معه بدلا من الأحكام المسبقة التى لا تبقى ولا تذر. أدلى المثقفون والمتخصصون بدلوهم فى منابر عدة، واضعين حلولا وخططا لإخراج الوزارة البائسة عن صمتها، لتتمكن من مواجهة الضجيج الذى تحدثه طيور الظلام، وبعد انقطاع رجائهم وخيبة أملهم فى أى تغيير حقيقى يليق بمعركة المصريين ضد قوى الشر المتسترة بالدين، طالبوا بإقالة عبدالواحد النبوى وزير الثقافة، ليفسح الطريق أمام أحد المستنيرين والمخلصين للثقافة والوطن ليشن الحرب المقدسة ضد تجار الدين وسماسرة الأوطان. الأصوات المطالبة بإقالة النبوى من منصبه كثيرة، ومن بينها قامات لا يعرف عنها التحريض ولم تنضم يوما لما يمكن وصفهم بالمغرضين، وبما أن «صوت الأغلبية ليس إثباتا للعدالة»، كما قال «شيلر»، فدعنا لا نرتكن على هذه المطالبات ولا نتخذها متكأ لإقالة الرجل، وننظر إلى الأسباب الكامنة وراء هذه المطالبات، وهى فى مجملها قد تكون أسبابا وجيهة لإقالة «النبوى» الذى لا يعترف بالفشل حتى هذه اللحظة، ربما لأنه لم يعى السياق الذى قال فيه شارلى شابلن «الفشل لا يهم، فمن الشجاعة أن تجعل من نفسك أضحوكة». 1- أقدم النبوى على إبعاد الوجوه المستنيرة من القطاعات الحيوية والأساسية فى وزارته، رغم حجم الإنجازات الذى قدموها، كل فى قطاعه، والغريب أن هذه الوجوه يشهد لها الجميع بالكفاءة والخبرة، ولكن يبدو أن ما يتمتعون به من سيرة حسنة لم ترق للوزير الذى لم يحظ حتى الآن بنصيب أى من هذه الوجوه فى الشهرة والتقدير على الأقل بين المثقفين والمهتمين بالثقافة، فكان الإبعاد هو جزاء الدكتور محمد عفيفى، الأمين السابق للمجلس الأعلى للثقافة، رغم نجاحه الملحوظ فى إدارة المجلس، وإحيائه لمؤتمر الرواية العربية بعد توقف دام 6 سنوات، المصير نفسه واجهه الدكتور أنور مغيث، الرئيس السابق للمركز القومى للترجمة، على الرغم من إصداره أكثر من 500 كتاب تم حبسها فى طوابير الانتظار، الأمر نفسه تكرر مع الدكتور أحمد مجاهد، الرئيس السابق للهيئة العامة للكتاب، على الرغم من كل الأصوات التى طالبت ببقائه فى منصبه، لما قدمه من جهد ملموس. إبعاد هؤلاء عن مناصبهم وتعيين من هم أقل منهم خبرة وكفاءة، يثبت أن «النبوى» لم يقرأ «دوستويفسكى» أو على الأقل لم تمر عليه عبارته الخالدة «إن الذكى لا يمكنه أن يكون شيئا خطيرا، وأن الأحمق وحده هو الذى يمكنه أن يكون كل شيء». 2- لم يقدم «النبوى» حتى الآن أى خطة لتطوير آليات العمل داخل وزارته ولم يبتدع أى نشاط من شأنه إيصال الثقافة للربوع والنجوع كمحاولة لمحاربة الجهل والأفكار الهدامة، وفى ظل معركة الدولة مع جيوب الإرهاب فى المحافظات مازالت قصور الثقافة خالية من أية أنشطة، وباتت مكانا تسكنه القطط والكلاب، تقاعس النبوى عن أداء هذه المهمة يثبت صحة ما قاله العظيم جوته: «فى أكثر الظروف فظاعة، وعندما يكون كل شيء مهددا، يواصل البعض العيش كما لو أنه لم يحدث شيئا ذا أهمية». 3- تولى «النبوى» مهام منصبه فى ظروف مستقرة نسبية، وكان يتوجب عليه أن يكثف كل جهوده من أجل وضع رؤية واضحة لإدارة المنظومة الثقافية فى مصر، والعمل الجاد للخروج بوزارته من أزماتها المزمنة، لكنه لم يفعل ذلك ولم ينشغل بهذه المهمة الضرورية، ليثبت للجميع أنه أقل كفاءة وحنكة ودراية بإدارة العمل الثقافى من كل الوزراء الذين سبقوه، فلم يرق للدكتور عماد أبوغازى الذى وضع شكلا مؤسسيا لهيئات الوزارة، كما لم يرق للدكتور شاكر عبدالحميد الذى تولى الوزارة فى ظروف استثنائية نظرا لسيولة الدولة وانهيار عدد من مؤسساتها. «النبوى» حاصل على الدكتوراه كسابقيه، لكن فشله فى إدارة المنظومة الثقافية يثبت أن «البشر يحيون بالأفعال لا بالأفكار»، أو كما قال أناتول فرانس. 4- استغل «النبوى» توجه الدولة للتخلص من الخلايا الإخوانية فى كافة القطاعات والمؤسسات لاستبعاد منافسيه وخصومه، بدلا من مواجهة الفساد الذى تعوم وزارته على سطحه، مما دفع «ائتلاف وزارة الثقافة» إلى توجيه خطاب شديد اللهجة للوزير، متهمين إياه بالتخاذل والتباطؤ فى التطهير والإصلاح. ما يفعله «النبوى» يذكرنا بما قاله شسترون: «ليس الأمر هو عدم رؤيتهم للحل، بل عدم رؤيتهم للمشكلة». 5- ينتهج «النبوى» مبدأ الاستعانة بأهل الثقة وليس الكفاءة، ومن هنا جاءت المقارنة فى صالح الدكتور أبوالفضل بدران، أمين المجلس الأعلى للثقافة، على حساب الدكتور محمد عفيفى، الأمين السابق للمجلس. 6- أقال «النبوى» كل القيادات التى كانت تحظى بخلافات جمة مع الدكتور صابر عرب، وزير الثقافة الأسبق، مما رسخ لدى العاملين بالوزارة والمثقفين اعتقادا بأن «عرب» هو الذى يدير الوزارة من وراء ستار، ومن ثم ينطبق على «النبوى» ما قاله ألبرتوما نجويل: «بسبب كل هذه الالتفاتات من السهل أن تضيع طريقك إذا كنت قد نسيت الإشارات». 7- يعانى العاملون بوزارة الثقافة من التخبط الإدارى، حيث أصر «النبوى» على أن يقوم المسئولون ورؤساء القطاعات بصرف المبلغ المتبقى فى الباب السادس الاستثمارى فى القطاعات المختلفة الذى يقدر ب220 مليون جنيه، وهو الأمر الذى انتقده العاملون بالوزارة، وكذلك المثقفون، معتبرين الأمر ضوءا أخضر للمسئولين عن هذه الإنشاءات ليفسدوا. وتصبح الأخطاء فادحة للدرجة التى قد تكون عصى فيها على الحل، لكن «النبوى» لا يعترف بهذه الأخطاء، وربما لا يعرف أنه على خطأ، وحتى لو كان كذلك فإن «أعظم الأخطاء هو أن يكون المرء غير مدرك للأخطاء التى يرتكبها» كما قال «كارليل». 8 سخر «النبوى» فى زيارة له لمتحف محمود سعيد بالإسكندرية من أمينة المتحف عزة عبد المنعم لبدانتها، مما سبب حالة من الاستياء الشديد، فى أوساط المثقفين، واضطر رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب إلى الاجتماع مع أمينة المتحف لتهدئة الأوضاع. ما قام به «النبوى» فى هذه الواقعة يثبت أن الرجل منبت الصلة بالثقافة وقيمها الرفيعة، ولو كان غير ذلك لعرف أن «وضع المرأة هو المؤشر الأكثر وضوحا وتعبيرا لتقييم نظام اجتماعى ما، وسياسة دولة ما»، كما يقول «تروتسكى». 9 تخلف «النبوى» عن حضور العديد من الفعاليات الثقافية الكبرى، ولم يقدم واجب العزاء فى مثقفين وفنانين أفنوا حياتهم من أجل الثقافة والتنوير، بما يثبت أن الوزير منبت الصلة بالثقافة والفن، أو على الأقل يجهل قيمة هؤلاء أو لا يعترف بهم أصلا، وعلى سبيل المثال غاب «النبوى» عن عزاء الفنان نور الشريف، والمخرج الكبير رأفت الميهى، وغيرهما من الرموز التى رحلت مؤخرا، بما يعطى انطباعا للجميع أن الدولة لا تقدر الفن والثقافة، ولا تحترم المثقفين والفنانين، مما أغضب الوسط الفنى والثقافى للدرجة التى دفعت السيناريست وحيد حامد لمهاجمة «النبوى» الذى قال فى أحد البرامج مبررا غيابه عن عزاء «الميهى» بأنه كان خارج مصر، فرد عليه وحيد حامد قائلا: «الوزير يكذب للهروب من الموقف فوقت إذاعة الحلقة كنا نقيم عزاء «الميهى»، وحضره فنانو مصر ومثقفوها وبدلا من أن يعتذر الوزير لانشغاله ادعى وجوده بالخارج». 10- لم يقدم «النبوى» منذ توليه مهام منصبه أى إنجاز يذكر، كما لم يستطع أن يحظى باحترام المثقفين والفنانين، لأنه بأفعاله رسخ لدى الجميع أن وزارته تستعدى الفن والثقافة وأهلهما، للدرجة التى يتوقع فيها الجميع كما توقع إميل سيوران «أن يأتى يوم لا تقرأ فيه إلا البرقيات والأدعية».