مصطفى النحاس أراد إنقاذ حكومته من الإقالة فألغى معاهدة 1936 ليمنع الملك من إصدار القرار فتجاوب الشعب معه رد بريطانيا جاء عنيفًا فنسفت قرية كفر عبده وذبحت قوات الشرطة فى الإسماعيلية وقتلت كل من تصورت أنه من الفدائيين فى يوليو حدثت الثورة، وقبلها بنحو أربع سنوات، حدثت مسببات النكبة العربية، فى يوليو أيضا، لا فى مايو كما يعتقد الذين أرخوا لها ببداية الحرب ومفاوضات الهدنة، فيما الأحداث كلها تشير إلى أن يوليو الذى كان شهرا للنكبة والهزيمة فى 1948، تحول بعد تشكيل اللبنة الأولى للضباط الأحرار بعدها، ليكون شهر الثورة التى غيرت مجرى الأحداث فى مصر.. فى هذه السلسلة من الحلقات نتحدث عن الحرب وذكرياتها، من خلال أوراق الراحل البكباشى جلال ندا الذى استودعها أمانة لدى الكاتب، وفيها أيضا الكثير من الوقائع التى ذكرها على لسانه باعتباره شاهدا على مجريات الأحداث، أو على ألسنة قادة الثورة أنفسهم، كاشفا ما غم على كثير ممن أرخوا للحدث العظيم فى تاريخ مصر الحديث، ومع تتابع الحلقات سنتعرف على ندا شخصيا مصحوبا بذكرياته عن الحرب التى شارك فيها، وكيف أنقذ جمال عبدالناصر من الموت، بينما هو قعيد مصاب لا يجد منفذا لعلاجه، وكيف كانت قيادة البطل أحمد عبدالعزيز للفدائيين، وعن الهدنة التى خربت التاريخ المعاصر للعرب، وتسببت فى هزيمتهم بالشكل الذى يؤرخ له المؤرخون باعتبارها النكبة العربية، ودور الإخوان المسلمين فى هذه الهزيمة، وخطة القائد عبدالعزيز لاحتلال القدس، ونتيجة رفض القيادة لها، وبعدها نستمع لشهادته عن بدء تشكيل تنظيم الضباط الأحرار، وكيف تشكلت علاقة محمد حسنين هيكل بعبدالناصر، ثم الحوارات التى أجراها مع بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وتحقيقنا لبعض مما ورد فيها، عبر شهادات أخرى لم ترد فى مذكراته، سعيا للبحث عن حقيقة ما حدث فى مصر منذ العام 1948 إلى قيام الثورة لنصل إلى ذهاب السادات إلى القدس، ورأى المعاصرين لعهده فى هذه المبادرة، كل هذا وأشياء أخرى ستمثل مفاجآت نتركها لوقتها. التحرك الشعبى الذى قصده جلال ندا عند تعرضه لمصطلح «المواطنون الأحرار»، وكذلك ما سبق أن ذكره عبر الإشارة إلى كتائب حزب مصر الفتاة التى تولى قيادتها، وأكده الباحث العراقى الدكتور أحمد هاشم جواد، ومعه أكثر من مؤرخ، جاء على نحو مجمل، لكننا سنحاول تفصيله فى السطور التالية، مساهمة منا فى توثيق تاريخ عليه شهود لا تاريخ قائم على التزييف وشهود الزور، كما فعل فصيل الإخوان فيما سبق ذكره، حيث تبدأ الأحداث التفصيلية بيوم الاثنين 8 أكتوبر عام 1951، وهو اليوم الذى فسره عدد من المؤرخين بأنه نتاج تدهور شعبية وزارة الوفد برئاسة مصطفى النحاس، التى تولت الحكم فى 3 يناير 1950، لكنها كما قالوا كانت مختلفة عما سبقها من وزارات وفدية، حيث عمد النحاس إلى سياسة المهاودة والمسالمة مع الملك، فكان ينفذ للملك كل مطالبه ويتغاضى عن مفاسده ومفاسد حاشيته، ويعمل على تلميع صورته فى الإعلام، فلم يعد مصطفى النحاس هو المجاهد الكبير الذى يسعى لتحقيق حرية الوطن واستقلاله، وإنما أصبح رجل سياسة يتبادل المصالح والمنفعة مع الملك ليبقى فى السلطة. فى ذلك الوقت كانت مصر تتعرض لظروف اقتصادية صعبة، أسهم فيها الملك والحكومة معًا، حيث جمعتهما صفقات على حساب المصريين، فكان ذلك إيذانًا بالانهيار، وتحرك الشعب ضد النظام بأكمله، ورغم أن وزارة النحاس أبدت تعاونًا كبيرًا مع الملك فى تصريف مصالحه، إلا أنه ما لبث أن ملّ وأراد التخلص منها وتحميلها وزر الظروف الاقتصادية المتردية، فأحس النحاس بدنو أجل وزارته، وأن إقالتها مسألة وقت، فعمد إلى لعبة سياسية إنقاذًا لشعبيته، فقام بإلغاء معاهدة 1936، فى مساء 8 أكتوبر 1951، ذلك التوقيت لمنع الملك من إقالة حكومته، لأن إقالتها فى ذلك الوقت سيجعلها تبدو أمام المصريين شهيدة الوطنية. فاجتمع البرلمان بمجلسيه "النواب والشيوخ"، مساء ذلك اليوم، وألقى مصطفى النحاس بيانًا تفصيليًا عن سياسة الحكومة، أعلن فيه قطع المفاوضات السياسية، التى كانت قائمة فى عهد وزارة الوفد بين الحكومتين المصرية والبريطانية، «بعد أن تبين عدم جدواها». كما أعلن إلغاء معاهدة 26 أغسطس 1936 واتفاقيتى 19 يناير و10 يوليه عام 1899 فى شأن إدارة السودان، وقدم إلى البرلمان مشروعات القوانين التى تضمنت هذا الإلغاء. وصدر القانون الرقم 175 لعام 1951، بإنهاء العمل بأحكام معاهدة 1936، موقعًا بتوقيع رئيس مجلس الوزراء، مصطفى النحاس، الملك فاروق، فاستقبل الشعب المصري، إلغاء المعاهدة 1936، بالفرحة الشديدة المختلطة بالحماسة، متجاوبًا مع الحكومة فى مقاومة الاحتلال البريطاني، فى منطقة السويس. على الجانب الآخر تلقت بريطانيا الأمر بعصبية شديدة، حيث صرح هربرت موريسون، وزير خارجيتها، بأن حكومته ستقابل القوة بالقوة، إذا اقتضى الأمر، لبقاء قواتها فى منطقة قناة السويس، وأنها لن تذعن لمحاولة مصر تمزيق المعاهدة، فيما أصدرت السفارة البريطانية فى القاهرة مساء يوم إلغاء المعاهدة، بيانًا أعلنت فيه أن إلغاء الحكومة المصرية للمعاهدة، من جانب واحد، عمل غير قانونى ويخالف أحكام المعاهدة، وأن الحكومة البريطانية تعتبرها سارية المفعول، وتعتزم التمسك بحقوقها بمقتضى هذه المعاهدة، بينما ألقى ونستون تشرشل، زعيم المحافظين وزعيم المعارضة وقتئذ، خطابًا فى مجلس العموم أيد فيه موقف حكومة العمال، وقال إن إقدام حكومة مصر على إجلاء الإنجليز، عن منطقة قناة السويس والسودان، ضربة أخطر وأكثر مهانة لكرامتها من اضطرارها إلى الجلاء عن «عبدان» بإيران. على المستوى الحكومى ترتب على إلغاء المعاهدة، إلغاء جميع الإعفاءات المالية، التى كانت ممنوحة للسلطات العسكرية البريطانية، بمقتضى تلك المعاهدة، وتشمل الرسوم الجمركية على المهمات والأسلحة والعتاد ومواد التموين وما إلى ذلك، وامتنعت الحكومة عامة عن أداء التسهيلات والخدمات، التى كانت تؤديها للسلطات العسكرية البريطانية، ومنها مواد التموين، ومنعت وصول ضباط وأفراد القوات البريطانية إلى داخل البلاد، وحرمت دخول الرعايا البريطانيين المدنيين، الذين كانوا يعملون فى خدمة القوات البريطانية، القادمين من الخارج، ما لم يكونوا حاملين جوازات سفر معتمدة من السلطات القنصلية المصرية فى البلاد القادمين منها، وأنهت تصاريح الإقامة للبريطانيين، الذين كانت إقامتهم فى البلاد لسبب الخدمة فى القوات العسكرية البريطانية أو لصالحها. أما على المستوى الشعبي، فبدأ الكفاح فى منطقة القناة، وأضرب العمال المصريون فى المعسكرات البريطانية عن العمل فيها، وانسحبوا جميعًا منها، ويذكر خالد محيى الدين فى مذكراته معلقًا على أحداث هذه الفترة، بقوله: «بعد إلغاء معاهدة 1936، بدأت على الفور عمليات فدائية ضد قوات الاحتلال، فى منطقة القناة، وتفجر الغضب الشعبي، بصورة لم يسبق لها مثيل، وتساقط الشهداء، وعجزت قوات البوليس عن مواجهة قوات الاحتلال، وتساءل الناس، وكانوا على حق تمامًا: أين الجيش؟ والحقيقة أننا بدأنا نشعر بحرج شديد، وكنا قد طالبنا بإحالة عدد من الضباط إلى الاستيداع ليتمكنوا من السفر إلى القناة ورُفض طلبنا». كتائب التحرير تطوع كثير من الشباب فى الكفاح ضد الإنجليز فى القناة، وألفوا من بينهم كتائب سميت بكتائب الفدائيين أو كتائب التحرير، تكونت فى القاهرة وفى المدن والقرى الواقعة فى منطقة القناة أو القريبة منها، وهو ما ذكره جلال ندا فى سطور سبقت نؤكدها فى تلك السطور.. كان لهذه الكتائب عمل إيجابى جليل فى تنظيم حركة الكفاح، وبث روح المقاومة فى نفوس المواطنين.. يقول خالد محيى الدين: «ومع تصاعد الأحداث، تصاعد الحرج، وقررنا أن يتوجه عدد من الضباط بشكل جماعي، إلى رئاسة أركان الحرب بكوبرى القبة، طالبين بالسماح لهم بالسفر إلى القناة للوقوف مع الشعب، فى مواجهة الاحتلال، لكن القائمقام رشاد مهنا «عضو مجلس الوصاية فيما بعد»، وكان على صلة بالضباط الأحرار، اعترض على ذلك قائلًا: إن حركة كهذه قد تؤدى إلى كشف العديد من الضباط، وقد تؤدى إلى اعتقالهم وإلى إجهاض حركتنا، يقصد تنظيم الضباط الأحرار، وبالتالى حركة الجيش، وبالفعل صرفنا النظر عن ذلك، لكن عددا من الضباط الأحرار بدأ فى السفر إلى منطقة القناة للإسهام فى المعارك، وفى هذه الأثناء بدأنا فى تجميع كميات كبيرة من الذخيرة والأسلحة، وكان هذا سهلًا للغاية، ففى عمليات التدريب على ضرب النار، كان من السهل أن يقرر ضابط أن رجاله ضربوا 100000 طلقة بينما هم استهلكوا فقط 20000 طلقة، وهكذا تجمعت لدينا كميات هائلة، أعطينا قسما منها للإخوان المسلمين، وقسما آخر تسلمه أحمد فؤاد ليوصله إلى «حدتو»، وقد أبدى عبدالناصر دهشته عندما أبلغته بذلك، وقال: «أنا أعرف أن الشيوعيين بتوع كلام وسياسة ومش بتوع عمل مسلح»، ولكننى أبلغته أن لهم مجموعة فى القناة اسمها «الأنصار» فوافق على تسليمهم الذخيرة والسلاح. ويذكر السفير جمال الدين منصور، أحد الضباط الأحرار، ومن المؤسسين لتنظيم ضباط الفرسان السرى عام1945 ولعب دورا كبيرا مع رفاقه من ضباط الفرسان، فى المساهمة فى التنظيم والإعداد لثورة يوليو 1952، وبعد نجاح الثورة واختلافه مع عبدالناصر ومجلس قيادة الثورة، فضل العمل فى الحقل الدبلوماسى حتى وصل إلى درجة سفير» فيقول : «قمنا بالاتصال بحزب مصر الفتاة ورئيسه أحمد حسين، وبدأنا فى تقسيم قوات الفدائيين إلى جماعات، على ألاّ تزيد أى جماعة على عشرة أفراد، ونشط الزملاء فى تدريب المواطنين، وكنا نبدأ بالتدريب النظرى على مختلف الأسلحة الخفيفة، القنبلة اليدوية، والبندقية «لى إنفيلد»، ثم ننتقل بهم إلى أماكن غير آهلة بالسكان مثل مقابر الغفير، لإجراء التدريبات العملية حول استعمال الأسلحة المختلفة، خاصة القنابل اليدوية، وكان يحضر إلى منزلى بالزيتون مجموعة من الشباب بين طالب وعامل، للتدريب النظرى والاستماع إلى شرح أجزاء الأسلحة الخفيفة المختلفة، تمهيدا للذهاب إلى التدريب العملى فى أرض المقابر، ثم القيام بعد ذلك بالعمليات المطلوبة منهم فى القناة». كما شارك أحرار الفرسان فى الكثير من العمليات الفدائية فى منطقة قناة السويس، ويذكر السفير جمال منصور: قاد عبدالحميد كفافى، أحد أفراد مجموعة الفرسان المؤسسين للتنظيم، بعض الأفراد الذين كانوا يقومون بالتدريب بشكل منتظم، إلى منطقة القناة وهاجم معسكر التل الكبير، ونسف السكة الحديد أمام بوابة المعسكر، مما أدى إلى انقلاب أحد القطارات المحملة بالمؤن وبعض المعدات الحربية، وعاد فى الليلة نفسها، ومعه فريقه إلى القاهرة. وقد صدر بيان من محطة إذاعة لندن بتلك العملية. كما قامت جماعات من تنظيم الضباط الأحرار، بعد انضمام تنظيم ضباط الفرسان، والإخوان الضباط، والضباط الذين كانوا ضمن تنظيم «حدتو»، بالإسهام، بدور كبير، مع مجموعات الفدائيين، فى منطقة القناة فى غارات حرب العصابات ضد المعسكرات وأمدوهم بالأسلحة والذخيرة، التى أمكن الحصول عليها من مخازن الجيش، وأعدوا الخطط لمعظم عمليات الفدائيين الهجومية، كما أعدت رئاسة تنظيم الضباط الأحرار لغمًا ضخمًا أطلق عليه اسم «التيتل» لاستخدامه فى إغراق أى سفينة فى مجرى القناة لتعطيل الملاحة فيها عند اللزوم. كفر عبده قامت الكتائب الفدائية المشكلة من طلبة الجامعات ومصر الفتاة، باغتيال كثير من العسكريين البريطانيين، وقابل الإنجليز ذلك بمنتهى العنف إلى أن أعلنوا فى أحد الأيام أنهم سيدمرون قرية «كفر عبده»، القريبة من السويس، بحجة أنها تؤوى الفدائيين، الذين يحاولون نسف محطة المياه الموجودة بهذه القرية، التى تغذى المعسكرات البريطانية بالمياه، ولما وصل التهديد إلى الحكومة أمر وزير الداخلية قوات بوليس السويس بالمقاومة، والدفاع عن القرية وانضمت قوات البوليس للفدائيين ودارت معركة غير متكافئة، بين المصريين والإنجليز، ونسف الإنجليز قرية كفر عبده وأزالوها بمن فيها، ممن تبقى من الأهالى ورجال المقاومة. "زيتية شل" فى 3 ديسمبر عام 1951، نشبت معركة بين المقاومة المصرية والقوات البريطانية، عند المنطقة المعروفة ب«زيتية شل»، وتحصن الفدائيون بالمنازل وانضم إليهم رجال البوليس، وحاصرتهم القوات البريطانية بالدبابات، التى انتشرت حول معمل تكرير البترول الأميرى وتقدم الجنود البريطانيون، يطلقون النار فى جنون، ولكن المقاومة استطاعت أن تقضى على معظم الجنود، وعلى رأسهم قائدهم الضابط الإنجليزي، وعندما وصلت أخبار هذه الخسائر إلى القيادة البريطانية، قررت الانتقام بعنف. مذبحة الإسماعيلية تحرش الإنجليز برجال البوليس فى مدينة الإسماعيلية، وأمرت القيادة البريطانية قوات بلوكات النظام المصرية الموجودة فى دار المحافظة بالجلاء عنها، وأمر وزير الداخلية فؤاد سراج الدين هذه القوات بالمقاومة وعدم الاستسلام، وفى يوم 25 يناير 1952، أطلق الإنجليز المحاصرون لدار المحافظة مدافعهم، وقاوم جنود البوليس عن مواقعهم فى بسالة واستخدم الإنجليز جميع أنواع الأسلحة الحديثة، واستشهد عدد كبير من البوليس لا يقل عددهم عن ثمانين جنديًا فكانت مذبحة بكل أبعادها، وسرعان ما انتشرت أخبار هذه المذبحة غير المتكافئة عن طريق الإذاعة والصحافة، فى المجتمع المصري، وأبلغت وزارة الخارجية المصرية ممثلى دول العالم المجتمعين وقتها فى الجمعية العمومية للأمم المتحدة بمذكرة عن هذه الفظائع. واستدعت مصر سفيرها فى بريطانيا احتجاجًا على تصرفات السلطات البريطانية فى القناة. حريق يناير فى صباح يوم 26 يناير 1952، سادت البلاد موجة من الغضب، واحتشدت قوات «بلوك النظام»، الموجودة فى منطقة القاهرة، لإظهار سخطهم على مذبحة الإسماعيلية، التى حدثت لإخوانهم الجنود، وتحركت هذه القوات فى شبه مظاهرة، واتجهت إلى جامعة فؤاد، واجتمعوا بالطلبة هناك، ثم اتجه الجميع فى مظاهرة، إلى مبنى مجلس الوزراء، ثم إلى قصر عابدين وكانت هذه المظاهرات تنذر بالخطر، خاصة أن بها جانبًا كبيرًا من رجال البوليس، المفروض فيهم حفظ الأمن والنظام، ولكن الاستياء كان قد بلغ مداه، وتجمع الأهالى حول هذا التجمهر، وزاد عددهم، وأفلت النظام عندما بدأوا يتحركون صوب ميدان الأوبرا، وفجأة فى ميدان الأوبرا، وبعد انضمام كثير من العناصر المخربة إلى المتظاهرين وكانوا يقودون دراجات بخارية وفقا لشهود عيان، بدأ الاعتداء على الممتلكات، ومحطات الوقود، والمحلات التجارية، واشتعلت النيران فى كل شيء، فى وسط البلد، حتى عم النهب، والسلب، والتخريب، وانتشرت الحرائق حتى وصلت إلى شارع الهرم، واستمرت حتى ساعة متأخرة من الليل. اللجنة التأسيسية احترقت القاهرة، وأقيلت حكومة الوفد، وبقيت الأحكام العرفية التى أعلنتها، وكان لحريق القاهرة أثر شديد على الضباط الأحرار، ففى مساء يوم الحريق، اجتمعت اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار لدراسة الموقف، واتضح بجلاء، فى هذا الاجتماع، أن الأحداث وتطورها فى البلاد تسير بخطى سريعة نحو حالة من التدهور لم يسبق لها مثيل، وأن الزمام ربما يفلت، فى أية لحظة، ويحدث انفجار من الشعب المتذمر، وتصبح البلاد فى حالة من الفوضى لا يمكن التكهن بنتائجها، وكان لابد من التحرك بسرعة، خاصة أن الملك نفسه عرف بأمر الضباط الأحرار، وتنظيماتهم داخل الجيش، بعد تحديهم له فى انتخابات مجلس إدارة نادى ضباط الجيش، التى جرت يوم 31 ديسمبر 1951، وفوزهم فيها، فكان عليهم أن يسبقوه فى التحرك، وأن يضربوا ضربتهم، ويقوموا بالانقلاب، الذى كانوا يعدون أنفسهم له، قبل أن يعمل هو على تصفيتهم نهائيًا من الجيش، وتضيع عليهم الفرصة. يقول عبداللطيف البغدادي: «عندما أثيرت تلك النقاط، فى هذه الظروف، التى تحيط بنا فى مناقشاتنا، وضرورة تحركنا السريع والعاجل، كان جمال عبدالناصر يرى عدم الاندفاع، ويدعو إلى التأني، وكانت هذه عادته، وكان الرأى فى اللجنة التأسيسية، فى هذه الجلسة، يتجه إلى عدم التحرك، ويحرص على التريث والحذر، ولما وجدت، أن هناك إصرارًا على عدم التحرك السريع، على الرغم من تلك الأحداث، أعلنت عن انسحابى من حضور اجتماع اللجنة التأسيسية فى المستقبل، حتى يقرروا أن الوقت المناسب قد حان لتنفيذ الخطة، وأن يعتبرونى فى تلك الفترة جنديًا لهم فى سلاح الطيران، وأنهم سيجدوننى وزملائى ضباط القوات الجوية خير عون لهم حينما تحين الساعة». منذ اجتماع اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار، مساء يوم الحريق، توالت المنشورات، وتأكد لجميع ضباط الجيش الوجود الفعلي، والنشاط الظاهر للضباط الأحرار، وانضمت أعداد كبيرة، من الضباط إلى تنظيم الضباط الأحرار، بحيث أصبح التنظيم قويًا وقادرًا على أن يثير اهتمام القوى الداخلية والخارجية، المهتمة باستمرار نفوذها فى مصر، وفى هذا الوقت، وصلت معلومات إلى تنظيم الضباط الأحرار، من الإخوان المسلمين، أن الإنجليز أبلغوهم أنهم يريدون التخلص من الملك، الذى أصبح مكشوفًا ومكروهًا من الشعب، ولا يضمن مصالحهم، وأن الإنجليز طلبوا من الإخوان اغتيال الملك!!. بعد الحريق كان الضباط الأحرار يعتمدون على منشوراتهم، التى لم تتوقف، التى تبادل مسئولية طبعها وتوزيعها، عدد من الضباط الأحرار، منهم عبدالرحمن عنان، وحمدى عبيد، وزير الإدارة المحلية فيما بعد، وخالد محيى الدين، ظهر بعد حريق القاهرة منشور يقول: «أيها الضباط.. إن الخونة المصريين يعتمدون عليكم وعلى جيشكم لتنفيذ أهدافهم، وهم يظنونكم أداة طيعة، فى أيديهم، للبطش بالشعب، وإرغامه على قبول ما يكره، فليفهم هؤلاء الخونة أن مهمة الجيش هى الحصول على استقلال البلاد وصيانته، وأن وجود الجيش فى شوارع القاهرة إنما هو لإحباط قرارات الخونة، التى تهدف إلى التدمير والتخريب، ولكننا لا نقبل ضرب الشعب، ولن نطلق رصاصة واحدة على مظاهرة شعبية، ولن نقبض على الوطنيين المخلصين. يجب أن يفهم الجميع أننا مع الشعب الآن، ومع الشعب دائمًا، ولن نستجيب إلاّ لنداء الوطن».