الحسن بن يسار البصري (21ه/642م - 110ه/728م) إمام وعالم من علماء أهل السنة والجماعة، يكنى بأبي سعيد ولد قبل سنتين من نهاية خلافة عمر بن الخطاب في المدينة عام واحد وعشرين من الهجرة. كانت أم الحسن تابعة لخدمة أم سلمة، فترسلها في حاجاتها فيبكي الحسن وهو طفل فترضعه أم سلمة لتسكته، وبذلك رضع من أم سلمة، وتربى في بيت النبوة. كانت أم سلمة تخرجه إلى الصحابة فيدعون له، ودعا له عمر بن الخطاب، فقال "اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس". حفظ الحسن القرآن في العاشرة من عمره، ونشأ في الحجاز بين الصحابة، ورأى عددًا منهم وعاش بين كبارهم، مما دفعه إلى التعلم منهم، والرواية عنهم، وحضر الجمعة مع عثمان بن عفان وسمعه يخطب، وشهد يوم استشهاده يوم تسلل عليه قتلته الدار، وكان عمره أربع عشرة سنة. في عام 36 ه انتقل إلى البصرة بالعراق، موطنه الأصلي، وكانت في ذلك الحين تمتلئ بالعلم والفقه، وبها الكثير من المناقشات والجدل الديني الواسع وشهد صدامات الفكر الحديث بالقديم، وهو ما تأثر به البصري. عاش البصري في هذه المدينة التي استمد منها كنيته، والتقى كثيرين من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجلس إليهم وسمع منهم، وتردد على مسجد البصرة فكان يتصدر حلقات الدرس. وفي سنة 43ه عمل كاتبًا في غزوة لأمير خراسان الربيع بن زياد الحارثي لمدة عشر سنوات، وشارك في الجهاد، وشهد له الجميع بالشجاعة، وبعد رجوعه من الغزو استقر في البصرة حيث أصبح أشهر علماء عصره ومفتيها حتى وفاته. كان الحسن البصري حسن الصورة، بهي الطلعة، وكان عظيم الزند، قال محمد بن سعد "كان الحسن فقيهًا، ثقة، حجة، مأمونًا، ناسكًا، كثير العلم، فصيحًا، وسيمًا". وكان من الشجعان الموصوفين في الحروب، وكان المهلب بن أبي صفرة يقدمهم إلى القتال، واشترك الحسن في فتح كابور مع عبد الرحمن بن سمرة. جمع مجلسه الكثير من متلقي العلم، فأخذوا منه الحديث، وتلقنوا منه التأويل، وتعلموا منه الحكم والقضاء، وتلقوا منه الموعظة. جلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو بن واصل صاحب الكلام، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبنجي صاحب الرقائق. انفصل عنه تلميذه واصل بن عطاء وكون الحلقة الأولى لمذهب المعتزلة، وكان سبب ذلك أن واصلًا ابن عطاء سأل الحسن البصري عن عصاة الموحدين فقال الحسن: "هم تحت المشيئة إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم"، فقال واصل: "بل هم في منزلة بين المنزلتين"، ثم اعتزل حلقته، فقال الحسن البصري "اعتزلنا واصل"، فسميت فرقته منذ ذلك الحين بالمعتزلة. وينظر الحسن البصري إلى الدنيا بوصفها وديعة لدى البشر، وعليهم أن يردوها إلى من أودعها إياهم كما هي، من دون تمسك بالباطل، أو طمع فيها بغير حق، ولا انكسار أمامها بغير سلطان نفس. واعتبر البصري، أن عشق الدنيا إحدى الكبائر وقال الحسن البصري في هذا: "ما عجبت من شيء كعجبي من رجل لا يحسب حب الدنيا من الكبائر، وأيم الله إن حبها لمن أكبر الكبائر، وهل تشعبت الكبائر إلا من أجلها؟، وهل عُبدت الأصنام، وعصي الرحمن، إلا لحب الدنيا وإيثارها". وقال أيضًا: "إن المؤمن الفطن اللبيب في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا يأنس بقربها، ولا يأسى لبعدها، ولا يأمن لغيرها، للناس حال وله حال". يتجلى تصوف البصري بالزهد عن الدنيا في الصبر العميق، فيقول: "إن الزاهد هو مَن لم يغلب الحرام صبره، والحلال شكره"، ويقول أيضًا: "إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون"، كما يظهر تصوف البصري أيضًا في حزنه لأن المؤمن عنده يجب أن يكون حزينًا، ليس اكتئابًا، ولكن للتعفف ورقة الإحساس. ولهذا قيل عنه إنه كثير الحزن عظيم الهيبة، وقال عنه أحد الصحابة: "ما رأيت أحدًا أطول حزنًا من الحسن، ما رأيته إلا حسبته حديث عهد بمصيبة". كان يقول: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئًا، ويحك يا ابن آدم، هل لك بمحاربة الله طاقة؟ إن من عصى الله فقد حاربه، والله لقد أدركت سبعين بدريًا، لو رأيتموهم قلتم مجانين، ولو رأوا خياركم لقالوا ما لهؤلاء من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب. قال حمزة الأعمى: وكنت أدخل على الحسن منزله وهو يبكي، وربما جئت إليه وهو يصلي فأسمع بكاءه ونحيبه فقلت له يومًا: إنك تكثر البكاء، فقال: يا بني، ماذا يصنع المؤمن إذا لم يبكِ؟ يا بني إن البكاء داع إلى الرحمة، فإن استطعت أن تكون عمرك باكيًا فافعل، لعله تعالى أن يرحمك، ثم ناد الحسن: بلغنا أن الباكي من خشية الله لا تقطر دموعه قطرة حتى تعتق رقبته من النار. عن حفص بن عمر قال: بكى الحسن فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يطرحني غدًا في النار ولا يبالي. أما عن سبب حزنه فيقول الحسن رحمه الله: "يحق لمن يعلم أن الموت مورده، وأن الساعة موعده، وأن القيام بين يدي الله تعالى مشهده، أن يطول حزنه". روى الطبراني عنه أنه قال: إن قومًا ألهتهم أماني المغفرة، رجاء الرحمة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم أعمال صالحة. يقول أحدهم: إني لحسن الظن بالله وأرجو رحمة الله، وكذب، ولو أحسن الظن بالله لأحسن العمل لله، ولو رجا رحمة الله لطلبها بالأعمال الصالحة، يوشك من دخل المفازة (الصحراء) من غير زاد ولا ماء أن يهلك. وجاء شاب إلى الحسن فقال: أعياني قيام الليل (أي حاولت قيام الليل فلم أستطعه)، فقال: قيدتك خطاياك. وجاءه آخر فقال له: إني أعصي الله وأذنب، وأرى الله يعطيني ويفتح على من الدنيا، ولا أجد أني محروم من شيء فقال له الحسن: هل تقوم الليل؟ فقال: لا، فقال: كفاك أن حرمك الله مناجاته. كان يقول: من علامات المسلم قوة دين، وجزم في العمل وإيمان في يقين، وحكم في علم، وحسن في رفق، وإعطاء في حق، وقصد في غنى، وتحمل في فاقة (جوع) وإحسان في قدرة، وطاعة معها نصيحة، وتورع في رغبة، وتعفف وصبر في شدة، لا ترديه رغبته ولا يبدره لسانه، ولا يسبقه بصره، ولا يقلبه فرجه، ولا يميل به هواه، ولا يفضحه لسانه، ولا يستخفه حرصه، ولا تقصر به نغيته. قال له رجل: إن قومًا يجالسونك ليجدوا بذلك إلى الوقيعة فيك سبيلًا -أي يتصيدون الأخطاء-، فقال: هون عليك يا هذا، فإني أطمعت نفسي في الجنان فطمعت، وأطمعتها في النجاة من النار، فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلًا، فإن الناس لم يرضوا عن خالقهم ورازقهم فكيف يرضون عن مخلوق مثلهم؟. عاش "الحسن" الشطر الأكبر من حياته في دولة بني أمية، وكان موقفه متحفظًا على الأحداث السياسية، وخاصة ما جرّ إلى الفتنة وسفك الدماء، حيث لم يخرج مع أي ثورة مسلحة ولو كانت باسم الإسلام. وكان يرى أن الخروج يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، وفوضى ساعة يرتكب فيها من المظالم ما لا يرتكب في استبداد سنين، ويؤدي الخروج إلى طمع الأعداء في المسلمين، وكان هذا الموقف ينبع من الحسن لأنه يرى أن السلطة مفسدة وأن الناس يخرجون من يد ظالم إلى ظالم، وإن شق إصلاح الحاكم فما زال إصلاح المحكومين يسير. ولهذا قال البصري مقولته الشهيرة: "ستون سنة من حاكم جائر خير من سنة بلا حاكم". أما إن كان الحاكم ورعًا مطبقًا لأحكام الله مثل عُمر بن عبد العزيز، فإن الحسن ينصح له، ويقبل القضاء في عهده ليعينه على أداء مهمته. كتب الحسن لعمر بن عبد العزيز ينصحه فقال: "فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله فبدد المال وشرد العيال، فأفقر أهله وبدد ماله". وكان للبصري هيبة في نفوس الحكام، فحين ولى الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية بغداد، وطغى وتجبر، كان الحسن البصري من القلائل الذين تصدوا إلى طغيانه، وجهروا بين الناس بسوء أفعاله، وهو ما دفع الحجاج إلى التهجم عليه في مجلسه وهدده بقطع رقبته وقال للجالسين بجواره: "تبًا لكم، سحقًا يقوم عبد من عبيد أهل البصرة، ويقول فينا ما شاء أن يقول، ثم لا يجد فيكم من يرده أو ينكر عليه، والله لأسقينكم من دمه يا معشر الجبناء، ودعا الجلاد والسياف، وأمر جنده بأن يحضروا الحسن من مجلسه ويقطعوا رأسه، فجاء إليه الحسن وتمتم شفتيه أمام العامة، وكان عليه جلال المؤمن، وعزة المسلم، لم يهابه، فلما رآه الحجاج أهابه وقال له "ها هنا يا أبا سعيد تعالى اجلس هنا"، وأفسح له وجلس بجواره والناس لا يصدقون، ولما أخذ مجلسه أخذ الحجاج يسأله في أمور الدين والبصري يجيبه فقال له الحجاج: "أنت سيد العلماء يا أبا سعيد"، وطيب له لحيته وودعه. ولما خرج الحجاج من المجلس سأله حاجب الحجاج وقال له "يا أبا سعيد لقد دعاك الحجاج لغير ما فعل بك، دعاك ليقتلك، والذي حدث أنه أكرمك، إني رأيتك عندما أقبلت تحرك شفتاك فماذا قلت؟". فقال الحسن: "لقد قلت يا ولي نعمتي، وملاذي عند كربتي، اجعل نقمته بردًا وسلامًا عليَّ، كما جعلت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم".