إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم "أنا على استعداد أن أفعل أي شيء إلا أن أمسك القلم مرة أخرى، وأتحمل مسئولية تغيير عالم لا يتغير.. وإنسان يزداد بالتغيير سوءًا.. وثورات ليت بعضها ما قام".. قالها أبو الواقعية في القصة المصرية يوسف إدريس، الأديب الذي اختطفه الأدب من عالم الطب، والذي عايش تطور التيارات الفكرية والسياسية المختلفة، واستطاع أن يحقق مصرية القصة القصيرة حتى استحق أن يُلقّبه البعض بأمير القصة، بينما وصفه آخرون بأنه أديب الأطباء وطبيب الأدباء. ولد يوسف إدريس في التاسع عشر من مايو عام 1927 في قرية البيروم بمحافظة الشرقية، وكان ابنًا لأسرة متوسطة من المزارعين تضم عددًا من المتعلمين الأزهريين، وتلقى تعليمه في المدارس الحكومية، ثُم التحق بعد دراسته الثانوية بكلية الطب في جامعة القاهرة، وتخرج منها عام 1951؛ وبعدها حصل على دبلوم الأمراض النفسية ودبلوم الصحة العامة، وعمل في المستشفيات الحكومية، وكان مفتشًا صحيًا في الدرب الأحمر. بدأ إدريس في الاهتمام بموهبته الأدبية، فأخذ ينشر قصصه القصيرة في الصحف بداية من عام 1950، ليرى الكثيرون أن اسمه سيصبح من الأسماء اللامعة في فترة وجيزة، وهو ما حدث بالفعل خاصة بعد كتابة قصة "أنشودة الغرباء" والتي نشرت في مجلة القصة، وبعدها تابع نشر قصصه في مجلة روزاليوسف، ليُقدمه عبد الرحمن الخميسي في جريدة المصري التي كان ينشر فيها قصصه بانتظام، ثم كتب عدة مقالات في مجلة صباح الخير وشارك في تحرير أول مجلة يصدرها الجيش بعد قيام ثورة يوليو وهي مجلة التحرير، ثم أصبح من كُتّاب جريدة الجمهورية التي كان يرأس مجلس إداراتها في ذلك الوقت الرئيس الراحل أنور السادات، حيث بدأ بنشر حلقات قصصه "قاع المدينة، المستحيل، وقبر السلطان"، وبعدها انطلق ليحتل مكانته كأبرز كتاب القصة القصيرة، وأصدر مجموعته القصصية الأولى "أرخص ليالي" عام 1954، التي مثّلت البداية الفعلية للواقعية في الأدب المصري، وأخذت موهبة إدريس في لفت الانتباه عندما أصدر مجموعته الثانية "العسكري الأسود"، والتي وصفها أحد النقاد بأنها "تجمع بين سمات دستويفسكي وسمات كافكا معًا". عايش إدريس ظهور وتطور التيارات الفكرية والسياسية الوطنية التي انتعشت في مراحل الاستقلال، وتأثر بالفكر الماركسي الذي انتشر في العالم بسبب تعاظم دور الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية والتحولات السياسية والاجتماعية التي شهدها العالم في ذلك الوقت؛ وكانت رؤيته الأدبية والفكرية تستند إلى إدراك حقيقي ورؤية متعمقة لمظاهر الوجود الإنساني وحقائقه، فجاءت كتابته مُتسمة بمعرفة عميقة للواقع الاجتماعي المصري، ورواها بأسلوب ساخر تشوبه الفكاهة، وكان معتمدًا على استعمال العامية المصرية في أغلب الحوارات، ليكون عالمه مصريًا خالصًا. كان إدريس يحيا شخصياته، وذكرت زوجته أنه حينما يجلس للكتابة، وبعد أن يكتب جملة أو جملتين يندمج تمامًا ويغيب عن كل ما حوله ويبدأ في التشويح والإشارة، ويتمثل الشخوص التي يكتب عنها ويشعر إنها حوله تكلمه وتلمسه، وقالت إن كتابة المسرح عنده حالة أصعب، لأنه يستحضر الحاسة الجماهيرية في نفسه، ويستحضر الحالة المسرحية ليبثها في نفس الجماهير، وقالت أنه عندما كان يكتب مسرحية الفرافير "كان في حالة صعبة جدًا، وقد رأيته بنفسي يقف أمام حوض الاغتسال يشيح بيده ويبكي بدموع حقيقية". وجاء عالم إدريس القصصي ليدور حول الموضوعات الأكثر حساسية، وهي الدين، الجنس، والسلطة ما برز في مجموعته الشهيرة "بيت من لحم"، وكانت فكرة القدر ووجود قوة عليا مهيمنة بارزة بقوة في العديد من شخصياته ومسار قصصه مثل " قبر السلطان، لأن القيامة لا تقوم، وأكبر الكبائر"، وكان ينتصر دومًا للإنسان المسحوق في مجتمع طبقي ظالم، وناقش في أعماله فكرة الاستبداد، فنشر مسرحية "المخططين" التي تُناقش بأسلوب خيالي كيف تتحول الأفكار الثورية إلى نظام شمولي بعيد عن الديموقراطية، فتصدت لظاهرة استيلاء جماعة المنتفعين على الحكم، ومنع أية محاولة لتصحيح الأوضاع، ولكنها لم تُعرض سوى ليلة واحدة، حيث صدر قرار بإيقاف عرضها في تلك الليلة؛ لكنها عرضت بعد ذلك على مسرح الطليعة، وكتب كذلك نصه الشهير "اللحظة الحرجة"، والذي حلل فيه حالة أسرة مصرية إبان حرب 1956 وردود فعل أفرادها تجاه الحرب؛ أيضًا رواية "البيضاء" مثّلت الصراع بين الغرب والشرق، وبين الشمال والجنوب، وأظهر الشتات بين التفكير العقلاني والعاطفي، وأبرز كل الصراعات النفسية التي تمر بها الشخصية الرئيسية في الرواية. أصابت إدريس أزمة إبداعية سيطرت على حياته وغلفت أعماله، وبدت شكلًا للانهيار الفني والفكري الذي أصابه في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، حيث كفّ عن الإبداع رغم أنه حاول استرداد موهبته، فكتب في أواخر السبعينيات بعض المحاولات القصصية، منها قصة "الرجل والنملة" التي نشرها في مجلة الدوحة، لكنها جاءت بعيدة عن البصمة التي تميز بها في قصصه القصيرة السابقة، وهو ما أرجعه البعض إلى أن تجربة المسرح جاءت على حساب اهتماماته القصصية لفترة غير قصيرة، وكانت أهم مظاهر الأزمة اهتمامه غير المعهود منه لكتابة المقال، فكرّس ذاته ووقته للصحافة والنشر في الصحف التي كان أبرزها الأهرام، فتوقف عن كتابة القصة، وجرفه المقال ليكتب في السياسية والاجتماع، فازدادت الأزمة لديه عمقًا ووضوحًا، وظهرت مقالاته متوترة، لتأتي حسب وصف البعض وكأنها مقالة وليست بالمقالة، وقصة وليست بالقصة. طال إدريس الكثير من النقد عندما تقاطعت أعماله مع علاقاته السياسية، مثل موقفه من جائزة مجلة حوار التي عام 1966 التي وافق عليها ثم تغير موقفه بعد أن اتضح أن تمويلها من خلال المنظمة العالمية لحرية الثقافة، والتي كانت تابعة لحلف الأطلنطي، ما دفع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر إلى تعويضه عن رفضها بمنحه مبلغ الجائزة، كذلك توترت علاقته بالرئيس السادات بعد أن كتب مقالات "البحث عن السادات"، فغضب الرئيس، وخرجت الصحف تقول إن إدريس ينتحر ويغتال تاريخه، ووصل الأمر إلى حد الاتهام بالعمالة والخيانة، فكتب مسرحيته "البهلوان" من وحي هذه الهجمات التي تعرض لها، فجاء بطله صحفيًا يمُارس مهام رئيس التحرير نهارا، وفي المساء يمارس بسرية عمله كبهلوان في السيرك، مستعينا بالمساحيق والطلاء لإخفاء ملامحه، وفي الحوارات التي جرت بينه ومساعده قال له إنه في عمله الصحفي ليس أكثر من بهلوان. حصل إدريس على عِدة جوائز أبرزها جائزة عبد الناصر في الآداب عام 1969، جائزة صدام حسين للآداب عام 1988، جائزة الدولة التقديرية عام 1990، وتوفى في أول أغسطس عام 1991 بعد صراع مع المرض.