وفي هذا الصدد يقول عن مجاله ومنافسه الأول في زمن مضي ،بأنه مقل في الكتابة الآن ، فهو لا يكتب إلا ليهاجم الشيوعية ، لا بد أن يبحث عن موضوع آخر ،لأن نفس الشيوعيين يهاجمون الآن الشيوعية ، وأضحك كثيرا لما أقرأ لمصطفي محمود ومحمد الحيوان وهما يهاجمان الشيوعية ، ثم يتساءل :"هو فيه شيوعية في العالم الآن"!!! وعندما تحدث عن فتحي غانم ، قال: "أنا سعيد أن فتحي غانم يكتب رواية الآن ،لأن في رأيي أن فتحي غانم ظلم كثيرا في عهد نجيب محفوظ ، مع أنه لا يقل جودة عن نجيب محفوظ..وأنا رأيي أنه أحيانا يجني ظهور كاتب علي كاتب ..ولا شك أن وجودي جني علي بعض كتاب القصة القصيرة مثلا"!! وفي هذه الاعترافات نلاحظ أن يوسف ادريس يغمز نجيب محفوظ برفق خارجي ،ولكن هذا الرفق ليس إلا طعنا يتجدد دوما في كتابات نجيب محفوظ ، وهذا الطعن ليس جديدا ،منذ أن كتب عنه في كتابه "بصراحة غير مطلقة"، وظلت أشكال الطعن هذه تتوالي بأشكال معلنة ومستترة ، حتي جاءت جائزة نوبل التي دفعت يوسف ادريس لتمزيق نجيب محفوظ بشكل معلن ، وجعلته يصرّح في جميع الصحف والمجلات بأن الجائزة كانت من حقه ، وزعم أكثر من مرة أن لجنة نوبل كانت قد وعدته بالجائزة ،وتحدثوا معه ، وهذه إحدي خرافات ادريس التي انطلت علي كثيرين ، فمن المعروف أن لجنة نوبل لا تعد أحدا ، ولا تتحدث مع أدباء علي الإطلاق ، والأمر يكون مفاجئا بشكل مطلق حتي للفائز نفسه ، وهنا يوجه ادريس عدة طعنات موجعة لنجيب محفوظ ،مصرّحا بأن الجائزة ذهبت لمحفوظ لأن اسرائيل راضية عنه ، وله كلام كثير في هذا الشأن ، مع عدم المساس بوطنية نجيب محفوظ، ولكنه يعتبر أن هذا رأي نجيب محفوظ. وبمناسبة جائزة نوبل والجوائز عموما ،فلها قصة مثيرة مع يوسف ادريس ، فعندما رفض جان بول سارتر عام 1964 جائزة نوبل ، احتفي العالم كله بهذا الرفض ،وفي ديسمبر من العام نفسه ، كتب ادريس مقالا في مجلة "الكاتب" عنوانه "جائزة رفض الجائزة"، وفي هذا المقال راح ادريس يضرب في كل اتجاه ، معلنا تحيته لسارتر ولرفضه بشكل واضح وصريح ، إذ بدأ مقاله قائلا :"كثيرا ما يسأل القارئ نفسه : الكاتب ...أي نوع من الرجال هو ياتري ؟ أهو فنان مهووس بنثر الكلمات والقصص علي الناس كما ينثر المجاذيب دخان مباخرهم علي رواد الأضرحة والكنائس ؟ أهو الانسان الذي يعرف كيف يكتب مثلما يعرف غيره كيف يعوم أو يرقص ؟ أهو رجل كشف عنه الحجاب ؟ هو ذو فراسة كقارئ البللورة وضارب الودع ؟ أهو دجال ؟ أهو بطل ؟ أهو جرئ يقول ما يخشي الآخرون قوله ؟ أم جبان يحتمي من الحياة خلف الكلمات؟ ..من يكون ذلك الكاتب ؟ ولماذا يكون؟ ". وينشر إدريس البيان الذي أصدره سارتر ،ويوضح فيه أسباب رفضه للجائزة ، ويناقش ادريس مؤيدا وموضحا موقف سارتر الثوري من الجائزة ، ويكتب ادريس مقالا طويلا حماسيا ،معلنا فيه أن سارتر برفضه للجائزة ،قد أحرز هدفا صائبا في مرمي الاستعمار ، ولا أعرف لماذا لم يعد يوسف ادريس نشر هذا المقال في كتبه التي ضمت مقالات عديدة له!. ولكن الأقدار تلعب دورا غريبا جدا بعد هذه الواقعة بعام واحد فقط ، إذ أن مجلة "حوار" اللبنانية تمنحه جائزتها ، وتجري حوارا معه في ديسمبر 1965 ،وفي مقدمة الحوار تقول :"مقابلة مع الفائز بجائزة (حوار) للعام 1965، أجراها غالي شكري ،وننشرها في سلسلة مقابلات (حوار) مع أبرز الأدباء العالميين والعرب ، وقد ظهرت في هذه السلسلة مقابلات مع نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وجورج شحادة ومع ت س إليوت ولورانس ضريل وهنري ميلر والبرتو مورافيا وجان كوكتو وبيكاسو وسيمون ده بوفوار وأوجين يونسكو وسواهم". وفي هذا الحوار ينطلق ادريس ، متحدثا عن طموحاته وعن تاريخه الأدبي والثقافي ،وعن معني الكتابة والفن ، معلنا أن خدمة الفن للثورة ، لا بد أن يكون هو ثورة في حد ذاته ، ويتحدث عن مفهومه عن الواقعية ،مهاجما تلك الواقعية التي تأتمر بالسياسة ،وتخضع لها ،ويسأله غالي شكري قائلا :"لم يكن ثمة مأخذ علي الأدباء الواقعيين إلا طغيان العنصر السياسي علي العمل الفني ،وقد أجمع النقاد علي أنك أحد الاستثناءات النادرة لهذه الظاهرة ، فقد استطاعت أعمالك الأولي أن تجمع بين الأدب والسياسة في صورة مشرقة "، وهنا يطرح ادريس مفهومه لعلاقة الأدب بالسياسة ،ولا فصل بينهما ،لكن مهارة الأديب هي التي تقدر علي إحداث ذلك الطغيان الذي يحدث لعنصر علي حساب عنصر آخر. وبالطبع فالحوار أعاد نشره غالي شكري في كتابه "يوسف ادريس .. فرفور خارج السور"، ولذلك يمكن قراءته بالكامل ، والتعرف علي وجهة نظر ادريس في كافة الظواهر الأدبية والفنية ، ولكن مايهمني هنا ،هو أن الأدباء والكتاب أثاروا لغطا كبيرا حول الجائزة ، عندما اكتشفوا أنها جائزة مشبوهة ، وحوصر يوسف ادريس آنذاك لرفض الجائزة ، بعد أن هبّت عاصفة من الرفض والإدانة لتلك الجائزة ، الممولة من "المنظمة العالمية لحرية الثقافة"، والتي اتضح أن تمويلها من الحلف الأطلنطي ،وهنا شعر ادريس بأنه لا بد من اتخاذ موقف، حتي لا يكون محل انتقاد دائم لدي المثقفين ،خاصة أن الحياة الثقافية والسياسية والفكرية ، كانت تعيش في شكل ومضمون وتوجهات عدائية مباشرة لذلك الحلف الاستعماري ، وقبل أن يحسم يوسف ادريس الموقف ، حدث أن استدعاه مكتب الرئيس جمال عبد الناصر ، وأبلغه سامي شرف تقدير الرئيس لموقفه هذه الواقعة يسردها يوسف ادريس نفسه ، وينقلها عنه فاروق عبد القادر في كتابه البحث عن اليقين المراوغ ، وسلمه سامي شرف مظروفا يحوي قيمة الجائزة ، التي كان قدرها عشرة آلاف ليرة لبنانية ، وتسلم ادريس ألفين وخمسمائة جنيه مصري ، وكان هذا المبلغ يوازي مبلغ الجائزة ،إن لم يزد قليلا ، وكان مبلغا كبيرا في ذلك الوقت ،ويقول عبد القادر :"وحين حاول يوسف أن يقول شيئا حول الموضوع ، أفهمه المسئول الخطير أن مراجعة الريسفي هذا الأمر ستغضبه ، وأنه لا يجرؤ عليها". هذه الواقعة بتلك التفاصيل ، تعني الكثير ، وأنا هنا أرصدها فقط ، ولا أريد التعليق عليها ، ربما لأنني حائر في وضع الكلمات المناسبة ، وربما لا نجد أي إدانة ليوسف ادريس بأي شكل من الأشكال ،ولكنها تعني بالنسبة لي ، بأنها فاتحة جديدة علي هذا العالم المغري ، الذي يصيب الأدباء في مقتل ، وهو اللهث نحو الحصول علي الجوائز ، ونحن رأينا وعاصرنا وأدركنا أن أي كلام يقوله الأدباء ،يفقد معناه تماما أمام أي جائزة ،حتي لوكانت من ديكتاتور مثل معمر القذافي وصدام حسين وغيرهما من حكّام هنا وهناك ، حتي أن الأدباء بدأوا مراجعة كل تصريحاتهم وكتاباتهم ، حتي لا تغضب ذلك الحاكم ،أو تثير تلك الدولة ،بعد التوحش الذي تمارسه هذه الجوائز في كل مكان. وقصة يوسف ادريس مع جائزة صدام حسين أكثر من مثيرة ، فعندما منحته اللجنة في بغداد الجائزة مناصفة بينه وبين جبرا ابراهيم جبرا، غضب يوسف ادريس غضبا كبيرا ، وأرسل إلي صدام حسين خطابا يراجعه فيه في مسألة المناصفة ،وبالفعل تم منح ادريس الجائزة كاملة ، دون مناصفة ، وهنا طلب ادريس إلغاء فكرة المناصفة تماما ، واستجابة صدام لتلك الفكرة ، كما يقول ادريس ، وعندما غزا صدام الكويت ،صدرت أصوات من هنا ومن هناك ، تطالب يوسف ادريس بردّ الجائزة ،وهنا رفض ادريس ذلك المطلب رفضا كاملا، وقال بأن لو أن الجائزة ستردّ الحاكم ،وتجعله يتخلي عن حماقته ، سوف يفعل ذلك، ولكنه يعلم تماما ، بأن ذلك لن يحدث ، كما أنه قال بأنه لن يرد الجائزة بالعند في هؤلاء الذين بجلسون علي المقاهي ، ويصدرون الأوامر لهذا الكاتب ، ولذاك الأديب ، وهو لذلك لن يحقق لهم تلك الأغراض ، لأنه لا يعمل وفقا لابتزاز أي أحد ، أفرادا كانوا أو جماعات. وبالطبع فقصة الجوائز لها أكثر من رواية ،ولها أكثر من راو ، ولكن بشكل عام ،فحديث الجوائز دائما ، ملئ بأشواك حادة ، وتصيب الجميع ، بداية من اللجان ، ومن شكلوها ، والأغراض الصغيرة أو الكبيرة ، والفائز نفسه ، دائما مايكون ضحية لكل هذه القصص ، وربما تحاك القصص السياسية ، دون أن تكون قصصا حقيقية. وبعيدا عن حديث الجوائز ،فيهمني هنا ،تلك الجملة التي قالها ادريس عرضا ، وهو أن وجوده كان معوقا لآخرين ، أو معطلا لظهورهم ، وإن كان هذا يصح بنسبة ما علي نجيب محفوظ ، فهو يصح بشكل كبير عليه هو نفسه ، ففتحي لم يكن مغمورا ، ورغم أن الاهتمام به كان قليلا ،إلا أن رواياته كانت تجد رواجا كبيرا عندما كان ينشرها في مجلتي "روز اليوسف وصباح الخير"، ولكن وجود ادريس نفسه كان مغيّبا لكثيرين ، وعلي رأسهم الكاتب ادوار الخراط ، والذي كان يكتب علي الطرف الآخر من نهر القصة القصيرة. ونوّهنا أكثر من مرة ،علي أن عقد الخمسينيات كان عقدا ذهبيا للقصة القصيرة ولكتابها ، وكان يضج بأشكال كثيرة في الكتابة ، ولكن كانت الواقعية الاشتراكية ، وبمفهومها السطحي ، كانت سائدة جدا ، ودارت معارك كثيرة حول مفهوم الواقعية ، ورفضها آخرون ، وربطوها بكل ماهو حسّي ومادي وملموس ، وكان طه حسين من أعمدة الرفض والسخرية من تلك الواقعية التي لا تهتم إلا بالبطون ، وكتب في ذلك مقالا في مجلة الرسالة الجديدة ، حول مسألة الواقعية ، وردّ عليه محمد مندور في العدد التالي بمقال عنوانه "نعم .. واقعيون"، وكذلك كتب عبد العظيم أنيس مقالا نادرا ليوضح فيه ماكان يقصده بمفهوم الواقعية. وكان كتاب "في الثقافة المصرية" لعبد العظيم أنيس ومحمود العالم ، هو المفجّر الأول لتلك المعركة ، أقصد المقالات والدراسات التي نشرت فيه ، لأن المعركة كانت دائرة قبل صدور الكتاب عام 1955 . وعلي خطي تلك الواقعية ،كتب عبدالرحمن الشرقاوي روايته "الأرض" ،ومجموعتيه "أرض المعركة وأحلام صغيرة"، وكتب محمد صدقي مجموعتيه الأولين "الأنفار والأيدي الخشبية"، وكتب نعمان عاشور "حواديت عم فرج"، وكتب محمود السعدني مجموعتيه "السماء السوداء ، وجنة رضوان"، وكتب لطفي الخولي مجموعتيه القصصية الأولي "رجال وحديد"، وكذلك أصدر بدر نشأت مجموعته الأولي التي قدمها أحمد بهاء الدين "مسا الخير ياجدعان"، وجرّب فيها اللهجة العامية بشكل واسع ، وإذا كانت هناك واقعية ، فهناك واقعية مفرطة ، فالجميع تباروا في محاولات تصوير الواقع بأشكال فنية متفاوتة ، فهناك من حاولوا تصوير هذا الواقع بشكل مباشر ، وكأن ما يكتبونه ينتمي إلي التقارير الاجتماعية ، وهناك من ارتفعوا عن ذلك بالتجريب اللغوي والشكلي. وكانت واقعية يوسف ادريس تشتبك بشكل أو بآخر مع ذلك المناخ ، ولكنه كان يتفوق عن كثيرين من أقرانه ومجايليه بخياله الجامح ، هذا الخيال الذي لا يصوّر الواقع كما هو بشخصياته وأحداثه وتفاصيله ، ولكنه كان يبالغ أو يفرط في تقديم وجبة دسمة من الحكايات والتداعيات التي تعمل كمشهيات لجذب القارئ لأحداثها ، فهناك مثلا" تلك القصة ، التي تحمل عنوان "الحالة الرابعة"، والمنشورة في مجموعة "قاع المدينة"، وهي قصة الطبيب العايق والمشغول بقراءة المجلات الأجنبية ، ويتعامل مع المرضي من "طرف مناخيره"، وجاءت الحالة الأولي والثانية والثالثة ، وهو لا ينظر إليهم بأي اهتمام ، وعندما جاءت الحالة الرابعة ، مصحوبة بجندي حراسة ، وضرب "تعظيم سلام "للدكتور ،وأفضي بأن هذه المريضة تحت المراقبة ،ولكن ليس لها مكان لكي تخضع لتلك المراقبة ، وهنا ينتبه الطبيب بعض اهتمام ،وعندما يدخل في حوار مع المريضة يكتشف أنها ليست مبالية بالمرض التي أتت من أجل علاجه ، حتي لو كان ذلك المرض "السلّ"، بل الأدهي من ذلك فهي تعرف مرضها ، وتبتسم للطبيب ،وتسحب السيجارة التي كانت أمامه في "الطفاية"،وتأخذ "نفسّا" منها ، دون أي أو اندهاش أو وجل من طبيبها المعالج ، وتدور القصة علي هذه الطريقة ، ويعيد الكاتب يوسف ادريس ما تسرده المريضة له ،فنكتشف أن الحكايات التي تسردها أعلي من الواقع نفسه ، وهنا تستمد القصة حالتها الإدهاشية ،من الحكايات الغريبة التي تسردها السيدة ، والتي تحرص علي تعليم ابنتها ، والتي لا تعرف أباها من ،من كل هؤلاء الرجال الذين أخضعوها لرغباتهم الجنسية. ولا أريد الاستفاضة في سرد القصة ،ووقائعها المثيرة ، والتي تبتعد عن الواقع كثيرا ، وربما يكون هذا الإفراط في وصف الأحداث والشخصيات ، هو العنصر الأكثر جاذبية للقارئ. لذلك لم تكن قصص ادوار الخراط ، أو بدر الديب ، رائجة في ذلك الوقت ،فالشعار المرفوع آنذاك هو شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الواقعية"، هذه الواقعية التقليدية ، والواقعية المفرطة ، الواقعية بشروط أحلام وآمال وتمنيات النقاد ، واقعية بأمر المهيمنين ، ولذلك جاءت مجموعة "حيطان عالية" القصصية الأولي لإدوار الخراط ،عام 1959، وهي قصص كان يكتبها الخراط منذ عام 1943، وكان الخراط متحققا في مجال الترجمة بشكل واضح ، ورغم أن غلاف المجموعة الأخير كان حاملا لآراء بعض النقاد والكتاب الكبار في ذلك الوقت ، إلا أن المجموعة لم تأخذ مجالها في الحياة الثقافية والأدبية ، ومن الذين كتبوا آراءهم علي غلاف الكتاب "د محمد مندور ويحيي حقي ونجيب محفوظ ويوسف الشاروني وفؤاد دوارة". ورغم أن التعريف الذي جاء في الكتاب بالكاتب ادوار الخراط ،نوّه علي أن الكاتب يعد مجموعته القصصية الثانية "ساعات الكبرياء" للنشر ، وذلك عام 1959، إلا أنها لم تنشر إلا عام 1972في بيروت ، أي بعد إعدادها بثلاثة عشر عاما ، ولا أعتقد أن ذلك كان بسبب انشغال ادوار بعمله مع يوسف السباعي في اتحاد الأدباء الأفريقي الآسيوي ، ولكن السبب الحقيقيفي ظني هو طغيان تيار الواقعية ، والذي أفرط الخراط في نقده وتمزيقه إربا إربا بعد ذلك ، عندما انفتحت الدنيا كلها لاستقبال ادوار وكتاباته ، وتكونت حوله مجموعة من التلاميذ الشعراء والروائيين وكتّاب القصة ،وشكلّوا حوله حماية ما ، وتم استثمار تلك الحماية بطرق مختلفة ، وكتب ادوار الخراط في كتابه "مهاجمة المستحيل"بأنه كتب واقعية متطورة ومختلفة ، عندما كان البعض يكتب تلك الواقعية الساذجة والبلهاء ،وكتب كذلك: "أظن أنني تناولتت هذاالواقع علي نحو منذ فترة مبكرة جدا ، وربما كنت غير مسبوق إلي هذا التناول ، وهو التعامل مع الواقع لا في الظاهر فقط ، لا من حيث الظواهر الخارجية ،وما يمكن أن أسميه السطح أو القشرة أو مايبدو للعين المجردة ، من الخارج ، وإنما هو التعامل مع الواقع باعتباره لا ينفصل عن الحياة الداخلية والروحية للإنسان ، وسقوط الحدود بين الشعر والسرد،وهو مايبدو في أول كتاباتي التي نشرت وهي في مجموعة "حيطان عالية". وراح ادوار الخراط يقيم معبدا جديدا ،لواقعية جديدة ، بمفهومات جديدة ، فكتب مقدمة نقدية طويلة لمجموعة "الدف والصندوق" القصصية ليحيي الطاهر عبدالله ، وليردّ له الاعتبار ، بعدما كان يوسف ادريس جارحا له ، عندما قدم له قصته "محبوب الشمس" في مجلة الكاتب عام 1965، ولم تكن تلك المقدمة ، مجرد رد اعتبار ليحيي الطاهر فقط ، بقدر ماكانت ردّعاً عمليا علي يوسف ادريس في كل ما ذهب إليه من تقديمات ،حتي يكتب دراسة نقدية عن يوسف ادريس نفسه تحت عنوان "يوسف ادريس صاحب الموهبة الحوشية"،وتنشرها الكاتبة الكبيرة اعتدال عثمان في الجهد المحترم والعظيم ،في إصدار المجلد الضخم، الذي نشر في أعقاب رحيل يوسف ادريس ، وفي تلك الدراسة يفند الخراط كل خلافاته الفنية والتاريخية ، ليس مع يوسف ادريس فقط ،ولكن مع ذلك التيار الواقعي ، الذي عطّل ظهور كثير من الكتابات والإبداعات المهمة في عقدي الخمسينيات والستينيات ، وأعتقد أن تلك المعركة مازالت آثارها تعمل في الأجيال الجديدة ، رغم مايبدو أن تلك الصفحات القديمة قد انطوت ،ولكن قضاياها مازالت مرفوعة أمام الرأي العام الفني والأدبي والتاريخي.