قد يكون سؤال "لماذا تكتب؟" تقليديًا بالفعل، في أحيان كثيرة يرد الكاتب بابتسامة أو يرُد مازحًا "لأنني لا أجد شيئًا آخر أفعله"، هكذا تكون الإجابة مُقتضبة؛ وفي أحيان ثانية يُسهب الكاتب في سرد العديد من العوامل والظروف والأشياء الكثير حول الكتابة نفسها، دون أن يُعطي مساحة ولو صغيرة، للرد على السؤال الذي يستهدف إجابة شخصية لا مُصطلحات عامة.. لماذا يُمسك هذا الشخص بأوراقه؟، أو يضغط أزرار الأحرف على لوحة المفاتيح؟، الأمر هُنا ذاتي تمامًا ولا يهدف لأمر عام. معنا بعض الكُتاب ممن أجابوا على السؤال؛ ليس في حوار صحفي يختلط فيه حديثه عام، وإنما كتب ل"البوابة" كلٌ منهم لماذا يكتُب. الروائي التونسي الحبيب السالمي.. أكتب كي أعرف نفسي.. ليست الهوية ثابتة، وإنما تجدها دائمًا متحركة ومتغيرة باستمرار لأنها ليست مُتعالية على الزمن، والكتابة شكل من أشكال مُلاحقة هذه الهوية، فالكتابة ظلت وستظل دائمًا مُحرّك البحث الأبدي، ومحاولة للقبض على هذا المنفلت. جار النبي الحلو.. لماذا أكتب؟ لعلها جدتي لأمي، القعيدة، التي تلخصت في ذاكرة وصوت شجي، كنت أذهب إليها –أنا تلميذ أولى أول ابتدائي– كل يوم حاملًا دفتري وقلمي الرصاص، تحكي لي الحواديت أحيانًا بفرح وأحيانا بحزن، ما يجعلني أكتب بسرعة، كنت أحلم أن أنقل لحظة فرحها أو حزنها، تقول المواويل وأنا أكتب، ولما أرجع لبيتنا كنت أخرج الدفتر الثاني لأعيد كتابة حواديت جدتي، كنت أحاول جاهدًا أن أضيف ما أراه وأحذف ما لا يعجبني، وكنت في كل الأحوال يبهرني الحكي والأداء والخيال. لعلها جدتي.. لعلها أمي.. الطيبة الرهيفة بالغة الحنو، تأخذني من يدي لأجلس بجانبها وتركن ظهرها لشجرة البونسيانا ثم تحكي لي حكايات العائلة وأسرارها، تهمس لي ألا أقول لأحد.. كنت لا أبوح وأندهش، ثم أجرى لدفتري الثالث وأكتب أسرار العائلة، أكتب بطريقتها الحنون المتعثرة أحيانًا. لعلها أمي.. لعله أبي.. الذي علمني القراءة والكتابة قبل المدرسة ووجدت في بيتنا مكتبته وبها أغرب الكتب مثل ألف ليلة وليلة، وكتب "جورجي زيدان"، و"سيرة عنترة"، و"فيروز شاه"، و"كتب الهلال"، فيما كان يخصني بمجلة الأطفال سندباد والمجلات والجرائد، صار بيني وبين الكتاب ألفة لا تنتهي، كان أبي يحفظ سيرة عنترة ويتلوها علينا، كان يحكي عن النهر والعفاريب والمقابر أعجب الحكايات. غير ذلك كنت أقعد بجوار الراديو الذي اشتراه أبي وينطلق خيالي ويبتهج بكل ما أسمع.. وأنا في المرحلة الثانوية صار عندي مكتبة. لعله أبي.. لعله أخي.. الذي خصني بالاحتفاظ بمفتاح مكتبته وأنا صبي صغير فدخلتها ووجدت فيها "بلزاك" و"موليير"، و"تشيكوف" و"يوسف السباعي" و"نجيب محفوظ" وترجمات.. لقد انتقلت من حواديت جدتي لعالم الكتاب.. هل حلمت أن اكون مثلهم؟ لعله أخي.. لعل موهبتي في التقاط تلك المفردات والقدرة على الغوص فيها والتعبير عنها لاكتشافها من جديد، ثم صرت كاتبًا منحازًا للأشواق الإنسانية وللشخوص المهمشة التي عرفتها في محلتي الكبيرة. لقد أحببت فعل الكتابة – الذي يجرني كل حرف فيها لدهشة أعظم – الكتابة لعلها الصنعة الوحيدة التي همت بها وتعلمتها. في الحقيقة أنا أبحث معك عن إجابة هذا السؤال الصعب: لماذا كتبت؟ لعلني أعرف.. عبد جبير.. قطعت علاقتي بأبي من أجل الكتابة.. أتصور أنه قد مرّت عليَّ الكثير من المراحل في حياتي التي شعرت فيها بعدم الجدوى من الكتابة، كانت إحداها عام 1970، وقمت ببيع مكتبتي كلها، وقررت أنني لن أقرأ ولن أكتب؛ كان ذلك نتيجة لما كنت أراه في الحياة الثقافية من مُشاحنات وشللية وغير ذلك، وأيضًا المأساة التي كانت تُطل برأسها في تلك الأيام؛ ولم تمر أسابيع حتى تراجعت في موقفي وركضت حتى سور الأزبكية، حيث قمت ببيع كُتبي هُناك، وعدت واشتريتها مرة أخرى، وعدت أكتب مرة أخرى، وتأكدت أنني لن أستطيع أن أتوقف عن الكتابة. لا أستطيع أن أعيش دون أن أكتب؛ فيُمكن أن أُضحي بعلاقة أو أُطلّق زوجتي لأنها لا تُمكنني من الكتابة، وأنا هربت من أهلي في الصعيد ليلًا، وقطعت علاقتي بالمرحوم أبي خمسة عشر عامًا متواصلة بسبب الكتابة؛ أيضًا عندما بدأت الاحتكاك بالسياسة في كتاباتي دخلت السجن؛ فالكتابة لا يُمكن أن أتخلى عنها، وأعتقد أن أي كاتب حقيقي لا يستطيع التخلي عنها. سعدني السلاموني.. الكتابة هي الوجود والخلود.. الكتابة لي هي الوجود والخلود، لأن وجودي في الحياة أصبح ليس له وجود على الإطلاق؛ والكتابة حريتي، وطموحاتي، وأحلامي، وكوابيسي؛ وعام بعد عام من الكتابة، وكتاب بعد كتاب، وزمن بعد زمن، تحولت حياتى إلى واقع لا يحُتمل، وتحول الورق إلى حياة حقيقية؛ وأنا على يقين أن الإبداع رزق من عند الله. أنا لم أتعلم بشكل رسمي ولا غير رسمي حتى السابعة والعشرين من عمري؛ وكان لي صديق اسمه سعيد أبو زيد كان يأتينى بالجريدة ليقرأ لى المقالات وأنا أشرحها له؛ وحين تعلمت القراءة والكتابة في السابعة والعشرين، خرج منّي كل ما شاهدته في الحياة في خمسة عشر كتاب، والمبدع الحقيقي القابض على إبداعه هو القابض على الجمر، لأن المبدع هو الوحيد الذي يستطيع إحياء الواقع أو تشويه أو قتله. عبد الستار سليم.. لماذا نكتب؟ الكتابة بالدرجة الأولى فعل إنساني، وعمل له وقع بالغ الأثر في نفوس المتلقين لفعل الكتابة، كما أننا لا نغفل أن دور الكتابة في محو الكثير من الدرن الفكري، وفى إزالة الصدأ المتراكم، والدنس والرين الذي على القلوب، قال تعالى " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" أي غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون، أما الجانب الإنسانى الآخر للكتابة فهو زيادة الوعي والتثقيف عند الناس، فمن المقطوع به هو أن الكاتب يكون في الغالب متُمتعا بقدر من الحكمة والخبرة الحياتية التي لا تكون متوفرة لغيره، بسبب ما حباه الله من موهبة وقدرة على الرصد واستخلاص الحكمة والموعظة ثم الصياغة الفنية المحببة عند الناس. فقدرة الكاتب على التأمل، وتقديم خبرته بشكل يستخدم وسيلة جيدة للتوصيل، ألا وهي الكتابة بأشكالها وبلهجاتها المختلفة، في الشعر، والقصة، والرواية، والمسرحية، والخطابة، والخواطر والأغاني، والأمثال، كل ذلك يتحول بفعل التقادم الزمني إلى موروث ثقافي هائل تتداوله الشعوب؛ كما أن الكتابة لو لم تكن، لما استطاعت الأجيال المُتعاقبة أن تتعلم ولا أن تتطور، ولا أن تُطالع الشعوب فنون بعضها، ولا أن تتعرف على العادات والتقاليد، ولا أخبار التقدم ولا تعلم شيئا عما دار في التاريخ من معارك ومشاحنات ولا أسباب تلك الوقائع، ولا عن الحروب الكبرى ولا عن كل ما دار قبل أن يوجدوا.