1 كانت الحالة مستعصيةً بالنسبة لي، لا أرضي عما أكتبه منذ مدة، مرةً أقول إن الحالات حولنا والأفكار والأحلام أصبحت متشابهة ومكررة لهذا أتحاور وأشتبك معها ثم أعبر عنها بدون حماس فيخرج العمل بارداً وتعبيراته مستهلكة، ومرةً أستجيب لتشاؤمي الأصيل وكوني تحت ضغط نفسي شديد في الفترة الأخيرة بعدما هربت حبيبتي ذات صباح من معطفي الممزق وأقول... بل أفلتت الحروف مني للأبد.. 2 كانت مرآة الأمر هي الكتابة، مرآة الأمور كلها، ومدي رضائي عن مستواها هو مَجْلي كوني متواصلاً معكم ومعي أم لا. في الحقيقة هو أمر مزعج وثقيل ويبعث علي التوتر: هذه الهواية أو الرياضة أو العَنَاء الذي وقع عليّ من شُبّاك القدر ذات يوم غامض في غرفتي، أو خرج مني ذات مساء وأنا في الشرنقة، فملأني بأطياف تزحم الفضاء من حولي بالأسئلة والتهكم الدائم والوحدة والخوف والاكتفاء بصداقة الحروف، هذا الفعل، الملتبس، عندما يتحول هو الآخر، مثله مثل باقي أفعال حياتي، إلي وحش: يسكن في الليل فأتنهد وآكل بشهية وأُحرك أعضائي بحرية وقد أُغني، وعندما يتثاءب ينشف الدم والحِبرْ وتزداد ضربات قلبي ويصم صوته أُذنيّْ، والكارثة تحل عندما يصحو وتملأ كلماته الفضاء، الكلمات الغليظة التي لها أكثر من مدلول وشكل وصياغة، أتجمد وتغور عيناي للداخل وتتراقص الحروف وتهرب ويتيبس الذراع الذي كان يلوّح ليقبض علي رقبة العاصفة ويحبسها علي صفحة الورقة، وتنخلع الساقان وتعودان لأصلهما : عكازيْن محفور عليهما حدقات الجد الكبير، المرعبة... إذن حبيبتي ليست إلا صورة مكرورة من ألعاب الوعي، والكتابةُ تجلٍ جديد ودائم , للسلطة , للرب والأب , وأنا لا أنتصر إلا لأني أستند علي تل من الكتابات لم ينشر بعد, وسأنفخ فيه ليكفي عدة أعوام قادمة.. إذن أبتسم وأطوح ورقتي هذه بعيداً وأمحق قلقي تحت قدمي، والثقب الظالم الذي خرجت منه حبيبتي، أسده الآن بحماس، ورضا : أحاول أن أتذكر طعمه أو أصيغه في قلب الورقة، لكنني أحتار قليلاً، لأنه لن يزرني منذ زمن بعيد، حتي كدت أنساه.. 3 كلمات من مثل: "الحالة مستعصية "، "الكتابة "، "الحب"، "السلطة "، وغيرها الملايين والملايين، اعتادت بمضي الوقت علي أن تتأرجح ملتبسة، عريانة، مكسوفة أمام عيوني، لأنها لا تحمل اكتمالها ولا أعيها، بالطبع أنا أُسقط فشلي وارتباكي أمام كل مفهوم أو صفة علي الكلمات المسكينة البريئة.. ولكن فكرة أن تمسك بتلابيب المعني شئ شاق فعلاً، تبحث في المعاجم ثم عن اختلاف الدلالة بين كل بلد وآخر ووقت وآخر وطريقة النطق في كل لهجة وكل مرحلة....الخ بعد هذا تقول لنفسك اعلم أن الكلمات ما هي إلا مظهر من مظاهر لعبة التواطؤ، حيث اتفقوا علي أن هذه الحروف بهذه الكيفية تؤدي هذا المعني بالذات وما نحن إلا حفنة من المجانين تتكرر دائماً وتحاول كم كلمة تعتقد أنك كتبتها في دفتر الرب حتي الآن؟ " سرح طويلاً ثم قال " أنا لا أكتب شيئاً، ومنذ بداية الدوام الكبير وهو الذي يكتب كل شئ، وأنا، فقط، أوقع أو أضع بصمتي وأمضي بعيداً.... ". أدرك أن تعبيراتي ناقصة وأن الكلام المكتمل وهم، وكذلك أحب أن أصل للمعني عن طريق التشبيهات والكنايات والحواديت واللف والدوران.. وهذه هي الصعوبة والجمال أن تثبت أن اختيار القدماء صحيح، طول الوقت وطول العمر، مثلما نفعل لتأكيد صحة اختيار أسمائنا وزوجاتنا ودياناتنا وآبائنا.... وهكذا، وفي النهاية لا أسكن إلا إلي الإحساس الذي يستعمرني بنجاح ليفسد عليَّ حياتي : اللاجدوي، فأستسلم ليقين قوامه "يا عم عيش وخلاص" لأن الوصول لمدلول وغائية كل ما حولي، أو ما حولنا، أمر غير ممكن بل ومستحيل......... لكن.. لكن إلامَ ترمز كلمة "ممكن" وما هو مدي كلمة "مستحيل" !!! 4 كنت أجلس وحيداً في المكتب، أتساءل مثل كل أيام الآحاد : لماذا يأتي زميلي متأخراً، وعندما يدخل أتذكر أنه يذهب للكنيسة قبل المجئ للعمل.. في هذا اليوم سألته وقت توقيعه في دفتر الحضور والانصراف عما إذا كان قد خالف سنته تلك في أي يوم من عمره الممتد، وعندما أجاب بالنفي سألته هامساً " كم كلمة تعتقد أنك كتبتها في دفتر الرب حتي الآن؟ " سرح طويلاً ثم قال " أنا لا أكتب شيئاً، ومنذ بداية الدوام الكبير وهو الذي يكتب كل شئ، وأنا، فقط، أوقع أو أضع بصمتي وأمضي بعيداً.... ". 5 عندما طال المرض بي وسمعتُ الطبيب يهمس لأمي بالجملة المأثورة " خذيه كي يموت علي فراشه، لا تبهدلوه " ابتسمت ووضعت كفيّ تحت رأسي وحدقت في السقف وقلت: أخيراً جاء المشهد الذي كان يأتيني منذ صغري، أن أكون محظوظاً فأعلم ميعاد موتي بدلاً من المباغتة التي اعتاد أن يصل عن طريقها، ومادام الموت قد وصل فلابد من كتابة وصية، كما كان يقول الجد.. وتكون مكثفة وتحمل رائحتي وفي نفس الوقت تحتوي علي جمل تحتمل أكثر من تفسير بما يضمن لي قنص أوقات مطولة من أيامهم المتشابهة.. اعتدلت وجلست أُدبر الأمر.. ساعات طويلة وأنا أكتب وأحذف وأضيف وأمي لا تعترض ولا تتساءل عما أفعل، فقط تجلس في ركنها لتملأ عيونها مني قبل الرحيل، وهل من المنطق أو الرحمة أن تغضبني في هذا الوقت الحساس؟ المهم أنني أنهيتها تحفة كاملة الأوصاف والمعاني، وضعت فيها الله والأهل والأسلاف والقَدَر والمحبة والألغاز.. ولم أنس أن أسرب إليهم إحساساً هائلاً بالذنب إزائي، صنعت أيقونة سأنظر إليها كل صباح ملوّحاً ومشفقاً علي حرمانهم من هذه الروح الوثابة واكتفائهم بهذه الجثة التي تتحرك وتكتب بدون أَلَق....... 6 حتي سنوات قريبة، كنت أحفظ موقع كل كتاب: من أين أتي وكيف، بل وذكريات ذلك اليوم : كان ممطراً، كنت جائعاً لدرجة أن دمعة سقطت رغماً عني بعد نفاد النقود، أمسك بيد الكتاب والأخري تجوس في جسد فتاة......الخ لكنني هذه الأيام كثيراً ما أفاجأ بكتاب لا أدري متي وصل ولا من أين ولا كيف؟ وهل قرأته من قبل أم أنني لم أفض بكارته بعد.. أتحسس غلافه وأرفعه في ضوء المصباح علّي ألمح آثار أصابعي لكنني أفشل، والغريب أنه في مكانه بالضبط وسط أقرانه في النوع.. وكان الحل لحيرتي، المؤذية، لأنها تدخل سريعاً وتأخذ دورها في تدمير ثقتي بنفسي، هو الكتابة : أن أكتب علي الغلاف الداخلي لكل كتاب عبارة من عبارات أصدقائي التي كنتُ أتهكم عليها دوماً : "مكتبة فلان..أ-الجغرافيا"، " فلان في يوم كذا الساعة كذا"، "فلان بصحبة فلان في ساحة المولد... " وما إلي ذلك.. لكني لم أستطع وقررت تطوير الأمر : أن أضع جزءاً هاماً وعزيزاً مني في كل كتاب أقتنيه، وكلما بحثت عن هذا المهم والعزيز أُقلّب في الكتب.. وهكذا لا تضيع من الذاكرة أو في الذاكرة أبداً.. وبعد أن مر يومان وأنا مستريح لتلك النتيجة بدأت أتهكم، كالعادة، علي رواية "سارا ماجو" التي أخفيت فيها كبدي والكتاب المقدس الذي وضعت قرب نشيد أنشاده رموشي وكتب ثروت عكاشة الذي سأوزع عليهم الذراعين والساقين، وشرعت في التساؤل عما يليق بعيوني، هل دواوين الشاعرات أم كتب رمزي زكي في الاقتصاد؟، أما عضوي فخفت ألا أستطيع الاستغناء عنه ولن أجد ما يستدعي قتل اعتيادي علي كرهه ومحبته في نفس اللحظة، كل يوم.. لهذا قررت أن أقنع نفسي بأن أعز وأهم الأشياء عندي هي الكتابة.. حيث صرنا أخوة وأعداءً بطول العِشرة.. وهكذا نمت هادئاً مؤجلاً الحيرة لليوم القادم " سأكتب يعني سأكتب".. لكن.. ماذا سأكتب في كل كتاب وخلف كل غلاف يتنفس ويعيش عندي وفي نفس الغرفة؟! 7 بدأت الكتابة بالشِعر، واستمر معي للنهاية.. وبين الحين والآخر أقترف أشكالاً أخري أظل أعاتب نفسي مرجعاً سوء قصائدي لهذا السبب، أقصد لتلك الخيانة.. ولكن لماذا الشعر، لأنه يشبهني، أنا مجبر علي الصمت أغلب الوقت وإذا تحدثت أفكر في بداية الكلام متي سيهمد ويموت، ليهدأ لساني ولو لم يهدأ عقلي.. وأدرك أن تعبيراتي ناقصة وأن الكلام المكتمل وهم، وكذلك أحب أن أصل للمعني عن طريق التشبيهات والكنايات والحواديت واللف والدوران.. وهذه هي الصعوبة والجمال في آن... في المجمل لا أقصد أن أقول وإن قلت لا أقصد تماماً.. لكن لنكن صرحاء، لماذا لا تتكلم براحتك أبداً يا أخي؟ لأني متوتر وخواف وأنسي أول الجمل وأثق أن لعثماتي القديمة ستُطل الآن.. أو بعد جملتين.. لا أدري.. لكني منتظر وسط عَرَقي، ولماذا تلجأ للمجاز أو تهرب إليه؟ لأنك لم تثق بنفسك أبداً ولم تصل لكبد المعني في أي يوم، لهذا "تغلوش" وتملأ عيون المستمع بالرقصات لكي لا يلتفت لفشلك، حيث إن ما قيل أو كتب ليس أنت، وعلي الإطلاق.. في النهاية، لماذا تحب كتابة الشعر؟ الجواب لأنه مسكين مثلي.. 8 أبتهج لاستحمامي لعدة أسباب، من بينها أنني أحب الكتابة علي بخار الماء المتكاثف علي المرآة وأتراهن مع نفسي علي الوقت الذي ستخلد فيه العبارات ولا تطير وكذلك علي ما سيأتي عفو الخاطر، لحظتها، لأكتبه بإصبعي أو بخيالي.. لكنني بعد أن كتبت" يا سمير، لا تمت إلا بعد أن أخبرك بأنني أقترب من إدراك معني كوني أحبك "بدأت أرتب ما سأكتب قبل الدخول.. وبهذا فقدت اللعبة أَلَقَها وصار البخار يطير أسرع من ذي قبل، حيث مات أبي وهو ينظر في عيني معاتباً علي أشياء تبدو أنها أكبر من إدراكي. 9 دائماً تحسم الكتابة الأمر، إن كتبت تصبح هناك قرينة ضدك أو عنك أو لك : الوثيقة.. علي هيئة كتاب أو صحيفة أو علي شاشة الكمبيوتر أو في خطاب مازلت ترش عليه العطر وتهمس فيه : أنا أكتب علي جسدك محبتي، وأنقش حروف اسمك في قلبي أو اسبحي معي لنكتب ذكرانا علي صفحة الماء فيشربها الناس ونعيش للأبد.. أقول هذا وأعلم أنني كذاب وأنني بهذا بليغ ونسبي ولا أعيش وراء الغمام والعواصف مع الكبار في كل شئ.. لكني لا أدرك أنني كذاب أو إنسان إلا إذا قرأت ما أكتبه أو يكتبه غيري.. وحدها الوثيقة.. وحدها الكتابة هي التي تفضحنا كل يوم وعندما تلعب معنا وتتدلل أو حتي تهرب بعيداً، نتعذب.. تظل الكتابة هي فاتحة الأمور أو قاتلتها..