سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
أم الشهيد ملحمة وعيد بلا وليد.. أمهات قدمن أرحامهن قرابين لأمن الوطن واستقبلن نبأ استشهاد فلذات الأكباد بالزغاريد.. وتعشن على ذكريات جميلة ترتسم أمام أعينهن وفي مخيلتهن
في 21 مارس من كل عام يعود الغائب لأحضان أمه ليهاديها ويرجع العاق عن عقوقه ليصالحها، ويعتذر المخطئ ويزيد المحسن من إحسانه، أجواء من الفرح وسائل عرفان محملة بهدايا الشكر واحتفالات وتجمعات وسعادة غامرة، هذا ما يظهر في نصف اللوحة التي يرسمها يوم عيد الأم، أما النصف الآخر فيحمل عالمًا آخر لأمهات فاضت عيونهن بالدمع من وجع الفراق، ففي مثل هذا اليوم كان يأتي لها ابن قلبها ويقبل جبينها، في مثل هذا المكان كان يضاحكها، وعند هذه الزاوية كان يقف ويرتب لها أشياءها، هنا كان يجلس بجوارها وعند تلك الزاوية كان ينام، تلك هي غرفته التي احتضنت متعلقاته وأغراضه، ذكريات بقت أما هو فذهب بعيدا حيث يسكن الراقدون تحت التراب، تاركا لقلب أمه التي مازالت تترقب الباب بعيون ملؤها الأمل في الرجوع وتتحدى صورته التي حملت الشارة السوداء ما يبقيها على قيد الحياة من ذكراه ورائحته التي لم تفارق زيه العسكري الشاهد على الغدر به والمنتظر للقصاص، أجواء متفرقة جمعت أمهات الأحياء وأمهات الشهداء في مشهد واحد يعكس مشاعر الأمومة وعظمة الصبر في قلوب من جعل الله جنانه تحت أقدامهن فداء، إنها ملحمة "أم الشهيد". كانت تشم رائحته قبل أن يدق بابها بنقرته التي اعتادت عليها، فالحبل السري بينهما لم ينقطع حتى بعدما أصبح شابا يافعا، كانت تعلم أن رغبته في الالتحاق بالكلية العسكرية ربما ستكون سببا في فراقهم، لكن كلمته "لكل أجل كتاب" وأن الشهداء "أحياء عند ربهم يرزقون" كانت تجعلها تستعيذ بالله وتتقوى على لحظات غيابه أثناء تواجده في كتيبته، بالصلاة والدعاء، في كل عيد كان يأتي لها بحقيبة محملة بالهدايا وإن منعه الواجب عن النزول كان يتصل بها ويمازحها بنكت ومواقف مضحكة كي ينسيها فراقه، لكن هذه المرة بدا الأمر مختلفا. "شعرت بوخزة في القلب، كنت أعتصره بذراعي لدرجة أنه قال ايه يا ست الكل العشق الممنوع دا سيبي شوية للعروسة، كنت بشم ريحة محمد من وهو جاي في الطريق آخر مرة حسيت إنه مش راجع فضلت حاضناه عشان أشبع منه ولا أنا شبعت ولا هو رجع ولا العيد بقا ييجي من بعده".. تلك كانت مشاعر أم الشهيد مقدم "محمد أحمد" الذي لقي ربه وهو يحارب عدوًا محتلًا منذ أعوام كثيرة لم تعد تقوى على عدها. ومن الأم إلى الجدة التي فقدت حفيدها ابن العشرين عاما الذي جلب الفخر لكل عائلته باستشهاده وشفاعته ل70 من أهله وأنه سيكون سببا في عتقهم من النار، الجدة التي كانت روحها تذوب في روح الحفيد "الحان" خفيف الظل الهادئ المطيع جميل الخلق والخلقة الذي حمل نفس ملامحها، البار الذي كان يأتيها مع كل إجازة تسمح له بها كتيبته، وينسى وقتها وربما يتناسى أنه "رامي باشا" ومن ثم يخلع بدلته العسكرية ويلبس رداء البر ليقوم ويرتب لجدته بيتها، رحل "رامي" برصاص الحمق وبقت الجدة المتعطشة لتلك الكلمات "كل سنة وانت طيبة يا تيتا". "ابني في الجنة، لأنه الصائم القائم حسن السلوك والأخلاق مع الغني والفقير، لم أخف عليه سؤال الملكين، فالملائكة لا تخشى الملائكة، إنه الشرطي الرحيم حتى مع الأعداء والخارجين عن القانون، كان يطبق روح القانون قبل القانون، وهو الطالب الذي قصد كليته العسكرية من أجل الشهادة، لذا تهلل وجهي بالابتسام فور وصولي نبأ استشهاده، وحشني ويعلم ربي باللي في قلبي لكني مطمّنة عليه وعايزة أقوله "كل سنة وانت طيب يا عين امك وهديتك لامك وصلت يا حبيبي"، كانت هذه كلمات والدة الشهيد النقيب "معتز" والذي لقي ربه أثناء مداهمته إحدى البؤر الإجرامية. أما تلك التي تماسكت ولم تصرخ فلم يحمل ولدها نجوما فوق كتفه ولا نسورا وإنما حمل هم خدمته العسكرية وواجبه الوطني فوق كتفه ومضي، حتى جاءها خبر استشهاده، أرادت أن تملأ الدنيا صراخا وعويلا ولكنها تذكرت الوصية فالتزمت الصبر، فلطالما كان يوصيها به إذا اما أصابه الموت، لذا حمدت وسجدت وتمنت أن يزف وليدها في جنان الآخرة بدلا من عرسه الذي كان مقررا له أن يتم قبل استشهاده بعدة أشهر، انها أم المجند حسن السير والسلوك، "على فتحي حسن". ومن الحضر إلى ريف الصعيد، تسكن أمهات، قدمن ارحامهن قرابين لسلام اوطانهن، أرامل وقفن في الصفوف الخلفية يدفعن بأبنائهم نحو الفداء، أمهات تفوقن على الفلاسفة والمعلمات، لم يشتركن في مجالس قومية ولم يشغلهن الحديث عن حقوق المرأة والمدنية، على الفطرة كن وبالفطرة ربين واحسنّ التربية. "من وهو صغير كنت آخده من يده واروح بيه للشيخ في الجامع يحفظه القرآن، كان مطيع مفيش غير حاضر يا حاجة تؤمريني يا امايتي، شاوري يا كبيرة وانا خدامك، مؤدب ولسانه الحلو سابقه، كرموه في الجندية بشهادة تقدير عشان ماغابش يوم،قالوا راجل وملتزم وشاطر، ولدي كان واد موت من يومه وكان قلبي بيه حاسس لا كان ليه في شر ولا أذية للخلق،كان بيجهز اخته لعريسها والموت خطفه لما انفجر فيه لغم وهو في خدمته، انا ما بكيتش ولا صرخت عليه، ولدي يتفرح له يا بتي اللي يتبكي عليه واد الحرام وانا ولدي واد حلال ورايح لربه صايم"، ما قالته ام الشهيد محمود السوهاجي. وهكذا بدا يوم العيد لأمهات فقدن الوليد دون سابق إنذار بالرحيل.