عاشت أسرة الشهيد أحمد سمير ضابط القوات الخاصة لحظات عصيبة بالرغم من توقعهم في كل مرة يخرج فيها للقيام بواجبه في خدمة الوطن والدفاع عنه أن يصبح شهيدا في جنات الخلد وملاقاة ربه بروح خالصة طاهرة من كل الذنوب.. رحل الشهيد عن الدنيا في جنازة عسكرية وشعبية مهيبة بعد أن تلقي رصاصات الغدر من عناصر إرهابية أثناء حملة أمنية علي أوكار الإرهاب بمنطقة قها بالقليوبية بعد أن تم رصد عناصر إرهابية من منفذي حادث اغتيال زميله الشهيد محمد مبروك ضابط الأمن الوطني الذي استشهد برصاص إرهابيين أمام منزله الأحد الماضي. خرج النقيب أحمد سمير كعادته بعد أن أدي صلاة الفجر هو وزملاؤه لضبط الجناة المتورطين في قتل زميله وكان يحركه دافع حب الوطن والقصاص لزميله الذي قتل غدرا ولكن رصاصات الإرهابيين لم تمهله لتحقيق هدفه وكانت أسبق إليه ليحمله زملاؤه ويعودوا به شهيدا إلي مسجد الشرطة ليدخل نفس المشهد السابق منذ أيام بصلاة الجنازة العسكرية يحوط جثمانه الطاهر علم بلاده الذي كثيرا ما وقف لتحيته. أم الشهيد بدأت الأسرة في الحديث معنا بصعوبة بالغة حيث رفض أغلبهم في البداية التحدث إلا أن نصائح المقربين كانت لها مفعول خاص وبدأت في الحديث معنا أكثر الناس حزنا عليه وهي أمه المكلومة التي بدت أكثر تماسكا من غيرها واثقة بأن الله قد استرد وديعته التي أودعها عندها وقالت بصوت ممزوج بالبكاء ورباطة الجأش: الحمد لله الحمد لله.. أنا مؤمنة بقضاء ربنا يا ابني وأعرف أن الموت مكتوب عليه وأعلم أنه حتي قبل أن يولد مكتوب عند الله ساعة استشهاده في المكان والوقت المحدد. تنهدت الأم العظيمة وقالت بنبرات من الأسي وعبارات من الحزن وكأنها تعيد شريط ذكريات قديمة في ذاكرتها للبطل الشهيد وقالت: ابني أحمد كان بيواظب علي الصلاة في وقتها و تحديدا صلاة الفجر التي كان حريصا عليها بالذهاب إلي المسجد فيها والحمد لله علي قضاء ربنا وقدره وربنا إن شاء الله يتولي أولاده من بعده وكل أولاد الشهداء من ضباط الشرطة. وتابعت الأم في صوت متحشرج ومتقطع: ربنا يصبر ويقوي أمهات كل ضباط الشرطة اللي ربنا كرمهم بالشهادة ولقائه وكمان كل الأمهات اللي ولادهم في الجيش. وعن نشأة الشهيد و طفولته قالت الأم: أحمد يتيم بفقدان والده منذ أن كان في الصف الثاني الإعدادي ودايما كان علي خلق ولم يتعبني في تربيته ودراسته وكان بيسمع كلامي كله وينفذه بالحرف الواحد وأنا كنت أتمني أن يحملني بعد موتي وذات مرة قلت له: أنا يا أحمد عايزاك تشيلني لما أموت.. ومين غيرك يا حبيبي هيشيلني. وكان يرد علي ويقول بابتسامة صافية وقلب مؤمن.. ممكن أموت أنا قبلك يا ماما هو حد فينا بيضمن عمره ولا هيعيش ساعه كمان في الدنيا وكنت أرد عليه في الحال بعد الشر عليك يا حبيبي. وعن الأفعال الإجرامية التي يرتكبها عناصر الإرهاب ضد رجال الشرطة والجيش قالت الأم: الشرطة شايلة البلد كلها والله يا ابني وعليها حمل تقيل وكلهم ناس أشراف ووطنيين بيحبوا بلدنا والناس تنام في أمان وهما صاحيين لحماية البلد.. أنا لا أعرف هما حاطين الجيش والشرطة ليه في دماغهم.. هما عايزين البلد تبوظ والدنيا تخرب من تاني ونقول علي بلدنا السلام. واختتمت الأم كلماتها بحسبي الله ونعم الوكيل في المجرمين اللي قتلوا ابني وأنا بطالب الشرطة والجيش والقيادات كلها بالقصاص لابني وزملائه والقضاء علي الإرهابيين كلهم في كل مكان في بلدنا. زوجة البطل ما إن وطأت أقدام شيرين رأفت زوجة البطل الشقة حتي نظرت لبرهة في جوانبها وصرخت بأعلي صوت أحمد مش موجود يا ماما أحمد مش هيكون معانا تاني وأجهشت بالبكاء وارتمت في أحضان والدها الذي كفكف من دموعها بيديه وحاول تهدئتها غير أن الزوجة كانت في حالة انهيار تام وهي تسأل نفسها في حسرة وألم أسئلة بلا إجابات.. ماذا أقول لمن أحمله في بطني من صلبك ؟.. تركته دون أن يراك.. كيف أكمل حياتي بدونك ؟.. بماذا سأخبر محمد وعمر عندما يسألونني بابا فين ؟ وبمن سأستعين في تربيتهم ومن سيبقي حائط الصد لشقاوة طفولتهم ليهذبها ؟. ويصبر الأب ابنته بعبارات: إن الله قد اختاره و كافأه بالشهادة مع الصديقين والنبيين وليكون سندا وشفيعا لنا يوم القيامة ونلقاه في الفردوس الأعلي جميعا.. وأنه أصبح فخرا ومثلا يحتذي لأولاده مستقبلا وسيكون مسار اعتزاز وتقدير من جموع الأهل والأحباب.. تنتفض الزوجة من حضن والدها وتصرخ لماذا تترك الداخلية أبناءها يموتون ضحية الإرهابيين الذين لا ملة ولا دين لهم ؟ ولماذا لا تتم إبادة المناطق التي يتواجد بها هؤلاء المجرمون في كل مكان دون عمليات اقتحام نخسر فيها أرواح أزواجنا بأن يقتلوهم بالطائرات والقنابل في أماكنهم. وتصرخ الزوجة بصوت أنهكه البكاء عندما كنت أطالبه كل مرة بألا يتقدم الصفوف بالمأموريات فكانت الإجابة العمر واحد والرب واحد.. أنا وزملائي معرضون لقضاء الله في أي لحظة. صهره وبعد لحظات عصيبة تدخل الأب وكأنه يوقف الحديث مع ابنته بعد أن أنهكها البكاء والكلام وقال بقلب صابر وبعقل حكيم ممسكا بمسبحة صغيرة تبدو علي وجهه علامات الإيمان بقضاء الله وقدره وقال: بدأت علاقتي بزوج ابنتي الشهيد عندما حدثني عن طريق بعض الأقارب عن رغبته في الارتباط بابنتي شيرين ورأيت فيه حينها الزوج المناسب الصالح بعد أن بدا لي قريبا إلي قلبي و تدينه واضح وثقافته تنم عن علمه الديني والدنيوي وأنا بطبيعتي أحب ضباط العمليات الخاصة في الجيش والشرطة وأجد فيهم مقاتلين أحرارا يحافظون علي امن الوطن بكل شجاعة وبسالة. وتذكر الرجل الذي يعمل مهندسا بالقوات المسلحة بعض اللحظات مع الشهيد وقال بابتسامة ذابت علي شفتيه: كان الشهيد دائم التردد علي معسكره بالأمن المركزي قطاع المحور قسم العمليات الخاصة وكان منضبطا في مواعيده بأن يقضي أجازته بين أسرته الصغيرة وكان يقضي يومي الجمعة والسبت معنا انا وزوجتي من منزله بأكتوبر إلي منزلنا بمنطقة شبرا.. وكان الشهيد مثالا للضابط الملتزم وكان الجميع يتحدث عنه بالخير و يشيدون بحسن خلقه.. هذا بخلاف التزامه الديني حيث كان يرافقني في صلاة المغرب والعشاء في المسجد ويصر علي النزول للحاق صلاة الجماعة وكان- رحمه الله خجولا حتي من أقرب الناس إليه حيث كان يتناول الغذاء معي ويرفض تناول العشاء بحجة أنه يجب أن يتمكن من النوم بشكل مريح محافظا علي لياقته البدنية وقوته الجثمانية. صمت الأب للحظات وكأنه يتذكر وصية الشهيد لزوجته التي أخبرها بها قبل استشهاده بأيام بأنه قال لها لو استشهدت لا تصرخي علي ولا تبكي.. وأن هذا هو قضاء الله وقدره واعتاد الشهيد قبل أي عملية حرصه علي اصطحاب السواك والمسبحة والمسك والمصحف الشريف وأنه قضي3 سنوات في الصعيد ولما عاد انتقل إلي العمليات الخاصة وكانت رغبته أن يقيم في الغردقة علشان العمل هناك يتطلب18 يوم عمل و12 يوم أجازة. تنهد الرجل لثوان معدودة ورفع رأسه ناظرا أمامه وقال: إن الشهيد كان حريصا أن يبقي في الصفوف الأولي للمأموريات وكان منضبطا وطوال حياته لم يعاقب بأي جزاء فهو مطيع للقياداته ولزملائه أيضا ومحبوب بينهم وكان خلوقا في التعامل مع الجميع حتي انه كان يهرول ناحيتي عندما أكون حاملا لشيء لكي يساعدني ويحمله بدلا مني... ولم يكن يحب السهر أو الحفلات لأنه كان يحب الجلوس كثيرا مع أبنائه وزوجته داخل البيت. نظر المهندس إلي الأرض ورفع رأسه قائلا: آخر ما كان يتمناه الشهيد أن يبيع سيارته الخاصة ويشتري أخري جديدة أفضل منها... ورفع الرجل يديه إلي السماء داعيا المولي عز وجل أن ينتقم منهم مرددا بأنهم أخدوه علي خوانة... وذكر الرجل أن البطل شارك في عمليات نسر2 الشهيرة بسيناء لمدة11 يوما وكانت هذه هي المرة الاولي لمشاركة الشرطة لقوات الجيش في مكافحة الإرهاب والتي أثني الشهيد عليها كثيرا وقال إنها كانت ناجحة جدا.. واختتم الاب حديثه قائلا: لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.. حماته تلتقط سحر محمد شرف أطراف الحديث من زوجها وتقول بعبارات من الحزن ونبرات من الأسي كان ملاكا يسير علي الأرض ولم أشهد له طلية حياتي أنه أذي أو ضرب أو تشاجر مع أحد وكان أقرب أزواج بناتي إلي قلبي ودرجة حبي له كانت تضاهي أولادي. تمسح الحماة دموعها وتحاول أن تستجمع قواها إلا أنها سرعان ما تعود لتتذكر آخر محادثة مع الشهيد وتقول اعتاد البطل ان يقضي إجازته الأسبوعية في بيتنا بمنطقة شبرا إلا أنه كان دائما ما يقطع إجازته ويتوجه إلي قطاع الأمن المركزي لتلبية نداء الوطن وكان حريصا علي كتمان أسرار عمله وعدم ذكرها لأي احد حتي انه كان يخفي علينا أماكن تواجده أثناء المأموريات فكان مخلصا ومحبا لعمله بدرجه لا توصف. تستكمل الحماة حديثها بصوت مبحوح خرج فجر يوم استشهاده وودعنا جميعا في صمت كعادتي كنت أطمئن عليه بين الحين والآخر حتي الساعة الخامسة فجرا فأشفقت عليه من شدة التعب وطالبته بإراحة جسده إلا انه اخبرني كيف يريح نفسه علي الأرض واستخلصت انه يخبرني بمكانه إلا انه رفض ووعدني بأنه سيطمئنها علي نفسه بعد انتهاء المهمة لكن القدر لم يمهله. تنهمر الدموع بغزارة من الحماة وتتذكر حوارها معه حول زملائه الذين يتساقطون علي يد الإرهابيين في جميع أرجاء الوطن فكان يفاجئني برده يا فرحتهم بالشهادة وامتي يجي دوري فكنت ادخل في نوبة بكاء شديدة فكان يرد علي عمر الشقي بقي... هو حد يطول ان يموت شهيد. توقف حديث الحماة ونظرت إلي الأرض وقالت وكأنها تحدث نفسها لا يغادر ذاكرتي لحظة وداعه الأخيرة ابتسامته وهي تملأ وجهه المشرق وكأنه يودع الجميع الي مثواه الأخير وارتميت علي جسده وقبلت رأسه واسترجعت شريط الذكريات التي جمعتنا وكيف كان يجلس امامي وهو يقرأ القرآن وكيف كنت اهتم به أثناء تناول الطعام وكيف كان الآخرون يغيرون من حسن معاملتي له ثم تتنهد ليظهر ما بداخلها من الم وهي تقول كل ده راح ترفع الحماة يدها إلي السماء وتناجي ربها وهي تقول يارب صبرني وألهمني السلوان وانتقم بقدرتك من القتلة وخذ لنا حقه واهدنا وحسبي الله ونعم الوكيل. الطفل نجل الشهيد وفي مشهد للعالم الآخر عالم البراءة والطفولة الجميلة بدأ محمد3 سنوات رصد حركات جميع من حوله بعينيه دون أن يقول شيئا ولاحظ ما هم فيه من حزن وسأل جده هو بابا عند ربنا في السما يا جدو.. فأجابه الجد المكلوم بصوت منخفض أيوه يا حبيبي وقام باحتضانه وضمه إلي صدره وترك له مسبحته لكي يلهو بها في مشهد مؤثر حرك مشاعر الشجن والحزن بداخلنا. رابط دائم :