الرئيس السيسي يصدق على مبادرة «مصر معاكم» لرعاية القصر من أبناء شهداء    الرئيس السيسى يثنى على الخدمات المُقدمة من جانب صندوق تكريم الشهداء    «الوطني الفلسطيني»: غزة جزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية    ضمن «صحح مفاهيمك».. واعظات «الأوقاف» يقدمن لقاءات توعوية لمكافحة العنف ضد الأطفال بشمال سيناء    الكرنبة ب30 جنيه.. أسعار الخضروات اليوم الثلاثاء 28 أكتوبر 2025 في أسواق المنيا    بينها التصالح بمخالفات البناء.. 9 قرارات هامة في اجتماع الحكومة الأسبوعي    مدبولي: افتتاح المتحف المصري الكبير سيسهم في جذب المزيد من الحركة السياحية لمصر    شقق شركة مدينة مصر تبدأ بمقدم 140 ألف جنيه وقسط شهري 5 آلاف فقط.. تفاصيل المشاريع وفرص الاستثمار العقاري    وزيرة التخطيط: تهيئة بيئة الاستثمار لتوسيع نطاق مشاركة القطاع الخاص    محافظة أسوان تنفذ حملة لرفع 500 حالة إشغال ومراجعة تراخيص المحلات    نتنياهو: حماس سلمت جثة محتجز عثر الجيش الإسرائيلي على رفاته بالفعل    زيلينسكى: مستعدون للسلام دون التنازل عن أراضٍ    جهود لبنانية - أمريكية لحصر السلاح بيد الدولة.. وحزب الله يرفض التسليم    تطعيم لاعبي الأهلي وجهاز الكرة ضد فيروس A    لتعزيز الصدارة.. موعد مباراة نابولي ضد ليتشي والقناة الناقلة    موعد مباراة أتالانتا وميلان في الدوري الإيطالي    حسم موقف آدم كايد من مباراة الزمالك والبنك الأهلي    رابطة الأندية: لا تأجيل لمباراتي بيراميدز.. وطولان لم يقدم برنامج إعداد المنتخب الثاني    «الداخلية» تعلن مواعيد إجراء «قرعة الحج» على مستوى الجمهورية (تفاصبل)    الداخلية تعلن البدء فى إجراء قرعة الحج بعدد من مديريات الأمن بالمحافظات    صانع محتوى يدّعى تعرضه للسرقة لزيادة المشاهدات.. والأمن يكشف الحقيقة    حملات أمنية مكبرة بكافة قطاعات العاصمة.. صور    العالم يتجه إلى القاهرة.. الصحافة العالمية: المتحف المصري الكبير مشروع يعيد رسم القوة الناعمة المصرية دوليا    المسألة المصرية وعقلية «روزاليوسف» الاقتصادية    افتتاح المتحف المصري الكبير 2025.. مصر تبهر العالم في أضخم حدث ثقافي بالقرن الحادي والعشرين    من قلب الأقصر.. «مدينة الشمس» تستعد لاحتفال أسطوري بافتتاح المتحف المصري الكبير| فيديو    تقترب من 19 مليون جنيه.. إجمالي إيرادات فيلم «أوسكار عودة الماموث»    الإفتاء توضح الحكم الشرعي لتقنية الميكرو بليدينج لتجميل الحواجب    "القومي للمرأة" يشارك في احتفال اليوبيل الماسي للهيئة القبطية الإنجيلية    عشرات شاحنات المساعدات تغادر رفح البري متجهة إلى غزة عبر كرم أبو سالم    مقتل ثلاثة أشخاص في جامايكا أثناء الاستعدادات لوصول إعصار ميليسا    محافظ أسيوط يستقبل الرحلة الجوية المنتظمة بين القاهرة وأسيوط دعما لمنظومة النقل والتنمية بالصعيد    جراجات مجانية لأعضاء النادي في انتخابات الأهلي    رئيس جامعة سوهاج يعلن تكليف 1113 أخصائي تمريض لدعم المستشفيات الجامعية    الشبكة هدية أم مهر؟.. حكم النقض ينهى سنوات من النزاع بين الخطاب    3 وزارات تناقش تأثير تغير المناخ على الأمن الغذائي في مصر    جامعة القناة السويس تنظم قافلة شاملة بقرية أم عزام بمركز القصاصين    دراسة: زيارة المعارض الفنية تُحسن الصحة النفسية    ب«الشيكولاتة والعسل والتوت».. طريقة عمل ال«بان كيك» أمريكي خطوة بخطوة    غيران ولا عادي.. 5 أبراج الأكثر غيرة على الإطلاق و«الدلو» بيهرب    ضبط صانعة محتوى بتهمة نشر مقاطع رقص ب«ملابس خادشة» في الإسكندرية    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ومستشار الرئيس الأمريكي لبحث تطورات الأوضاع في السودان وليبيا    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 2026 ومكانته العظيمة في الإسلام    ضبط (100) ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 28-10-2025 في محافظة الأقصر    ضبط 3 أطنان دقيق في حملات مكثفة لمواجهة التلاعب بأسعار الخبز الحر والمدعم    «بلغهم بالتليفون».. شوبير يكشف تفاصيل صادمة في أزمة إيقاف «دونجا» ودور عامر حسين    شيخ الأزهر للرئيس الإيطالي: ننتظر إعلان إيطاليا الاعتراف بدولة فلسطين    استعدادات مكثفة لمتابعة جاهزية المراكز الانتخابية قبل انطلاق انتخابات النواب بقنا    وزير الداخلية التركي: لا خسائر بشرية جراء زلزال باليكسير    ميسي يكشف عن موقفه من المشاركة في كأس العالم 2026    الصين تحقق مع نائب برلماني تايواني للاشتباه في قيامه بالدعوة للانفصال    14 شاشة لمشاهدة احتفالات افتتاح المتحف المصري الكبير بأسوان    نزلات البرد وأصحاب المناعة الضعيفة.. كيف تتعامل مع الفيروسات الموسمية دون مضاعفات؟    الباعة الجائلون بعد افتتاح سوق العتبة: "مكناش نحلم بحاجة زي كده"    استقرار اسعار الفاكهه اليوم الثلاثاء 28اكتوبر 2025 فى المنيا    خالد الجندي: في الطلاق رأيان.. اختر ما يريحك وما ضيّق الله على أحد    بعد حلقة الحاجة نبيلة.. الملحن محمد يحيى لعمرو أديب: هو أنا ضباب! أطالب بحقي الأدبي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى حضرة "المجاور الحائر".. سليمان فياض
نشر في البوابة يوم 04 - 03 - 2015

«أنا قاص حتى وأنا أكتب سيرتى عن الحياة المغلقة في مجتمع أزهري شبابي، فأنت تعيش في زمن وتتلقى ثقافة زمن مضى، أعيش كمراهق يبحث عن هويته، حائرًا بين ثقافتين»
كان دوما يدخل في معارك معلنة، وأخرى مستترة، وثالثة تلك التي استخدم فيها أقنعة وأحرفًا أولى لمن يهاجمهم ويتندر عليهم، كان في بعضها شديد القسوة، كانت معاركه تنطلق من نفس ممرورة إلى حد كبير، حيث كان عازفا بالفعل عن إعلان بضاعته الأدبية، وينأى بنفسه عن الأضواء الزائفة، غارقا في عالم إبداعه الذي ينهل من مساحات فريدة وخاصة، عالم قريته التي يعرف أسرارها.
ويتقن اللغة التي تشى، وتصرّح، وتلمّح. كذلك هو يعرف عالم الأزهر الغنى بكل التناقضات، وقد سجّل تجربته في روايته «أيام مجاور»، ورغم هذه الموهبة التي فاضت في نهر الحياة الثقافية آنذاك، أي في أواخر خمسينيات القرن الماضى، فإن الحياة الثقافية والنقدية والأدبية لم تلتفت بشكل يليق بهذه الموهبة، التي مثلها الراحل سليمان فياض ورفاق له أهملتهم حركة التأريخ الأدبى في مصر، كذلك ساهمت الحركة النقدية في تجاهل إبداعاته اللافتة، وفى الوقت نفسه التكريس لإبداعات الآخرين.
وإزاء هذا الوضع النقدى والتاريخى الظالم والمقلوب، كان سليمان يوجّه سهامه الطائرة يمينا ويسارا، دون أن يشير إلى القضية بوضوح، ولمن قرأ بورتريهات سليمان فياض عن يوسف إدريس أو صلاح عبدالصبور سيلاحظ أن ثمة خدوشا لا بد أن يحدثها فيّاض في عمق من يكتب عنه، وربما تكون ملاحظاته صحيحة، ولكنها بالتأكيد تنطلق من نفس علاها كثير من الأسى المغلّف بفكاهة الأسلوب، وهناك دليل حى وقاطع على ذلك، وهو كتاب «النميمة».
أقعد المرض أديبنا الراحل، ووقع الجميع في خطأ حين صدقوا ما كتبه أحد العارفين بكلمة المرور إلى صفحة «فياض» بموقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك»، فكتب يوم 24 ديسمبر الماضى بالنص: «إلى كل الأصدقاء ورفاق العمل والزملاء والأحبة أشتاق لزيارتكم»، بينما كان الأديب الراحل في حالة صحية لا تسمح له بالتعامل مع العالم الافتراضى على الشبكة العنكبوتية.. ورغم ذلك لم يتوجه لزيارته أحد إما لصعوبة الموقف عليهم وإما جحودًا أو نسيانًا، ولم يتقدم ابنه «باسم» بأى طلب لعلاجه على نفقة الدولة، وتحملت الأسرة تكاليف العلاج بنفس راضية وعرفانًا بفضله عليها، واهتمت بتواجد ممرض متخصص ومقيم كل الوقت بجواره طوال فترة ملازمته للفراش.
محمد سليمان عبدالمعطى فياض رحلة طويلة من العطاء، ولا يوجد أروع من «سليمان فياض» ليكتب عن «سليمان فياض»، فقد صدر له عن «دار الهلال» كتابه «أيام مجاور» والذي يحكى فيه فترة أساسية من شبابه عندما كان طالبًا بالمعهد الدينى في الزقازيق، وعن بداياته منذ ارتدائه العمامة وعن سنوات قضاها مجاورا في الأزهر في أربعينيات القرن الماضى، معتمدًا على شيخ يجاوره ويحصل منه على إجازة علمية في آخر الصف الدراسى، ولعل هذه السنوات العجاف هي التي صنعت منه روائيًا كبيرًا.
وعن طريقته في الحكى، يقول فياض: «أنا قاص حتى وأنا أكتب سيرتى، فلم أقدم تأريخا ببليوجرافيا مثل سيرة أحمد أمين، ولم أبد الرأى في التجربة المعاشة مثل طه حسين في كتابه الأيام، ولكنى عبرت عن الحياة التي عشتها، وقدمت رواية عن المكان، ورواية العائلة، رواية تسير في خط طولى تتفرع منها خطوط عرضية وهى الحكايات، وحاولت أن أعطى صورة عن الحياة المغلقة في مجتمع أزهرى شبابى، فأنت تعيش في زمن وتتلقى ثقافة وهوية زمن آخر مضى، أعيش سبع سنوات كمراهق يبحث عن نفسه وهويته، وينمو جسديا وروحيا، حائرا بين ثقافتين».
في بداياته، عمل مدرسًا للغة العربية بمدرسة العباسية الثانوية بالإسكندرية، التي كان يطل عليها سكنه هناك، وأحدث حضوره للمدرسة تغييرًا للصورة النمطية السائدة آنذاك عن مدرس اللغة العربية.. كان فياض شابًا في نحو الثالثة والثلاثين من عمره، أنيقًا في ملبسه، وسيمًا في مظهره، يزيده وجهه الأبيض بهاءً مع شعره الناعم الذي يغطى جبهته، فحظى بحب التلاميذ من أول لحظة، خاصةً أن أسلوبه في التدريس كان أيضًا بعيدًا عن التقليدية ولا يعرف لغة التعجرف والألفاظ المهجورة.
وتأتى حيثيات حصوله على إحدى الجوائز لتنبه إلى قيمته وقامته بين أقرانه، حين تقول: «إنه واحد من الذين أخلصوا لفن القصة القصيرة، وتمكن من أن يشيد به عالمًا فنيًا وإنسانيًا متكاملًا، أثرى به طاقة هذا الفن على التعبير عن قضايا الواقع وهموم الإنسان العربى، ما جعله من البارزين بين كتاب هذا الفن من حيث تشخيص قيم الحداثة المتجلية في تقنية الكتابة القصصية واستخدام تعدد الأصوات وتنوع اللغات، ما يعد مساهمة جادة في إثراء هذا الفن وتحديثه».
ومثلما كان عالمًا في الرواية، كان يلتف حوله كثير من المريدين يستمعون لطريقته المتميزة والفريدة في الحكى، وتبقى مقاهى زهرة البستان وريش وإيزافيتش «قبل احتراقها» شاهدة على جلسات ومنتديات أديبنا الراحل، ومن حق كل هذه المقاهى أن تقول: هنا كان يجلس أديب كبير ترك بصمته على الحياة والمجتمع والناس هو سليمان فياض.
معاجم تبحث عن مطبعة
لا تزال بعض أعمال سليمان فياض تبحث عن ناشر، لعل أهمها المعاجم اللغوية التي أصدر عددًا منها، وتتبقى أعداد جاهزة للدفع بها للمطابع، بينما يحتاج بعضها لاستكمال بسيط، ليكون مشروعه الرائد كاملًا في المكتبات العربية، لقد بذل فياض كل ما يستطيع من جهد لإصدار هذه المعاجم، وحان وقت تكريمه التكريم اللائق بطبع ما تبقى من السلسلة، سواء عبر الهيئة العامة للكتاب أو بدعم من صندوق التنمية الثقافية، ونعتقد أن فياض سيلقى ما يستحقه من اهتمام يليق به، ويليق بالثقافة العربية.
قلب طفل وعقل مفكر وروح شبابية حتى آخر العمر
«عندما كتبت أحيى استقالته احتجاجا على مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب، قاطعنى لعدة شهور وعاد بعدها ليقول لى: المواقف الوطنية لا نتخذها لنتاجر بها».
ستون عامًا وأكثر، مضت بين أول قصة نشرها عمنا سليمان فياض عام 1954 وبين رحيله منذ أيام، بعد رحلة غنية بالتميز كعالم وأديب وقاص ولغوى أيضًا.
ستون عامًا حافلة بالخلق والإبداع والتنقيب في أسرار لغتنا الجميلة، حتى إن لجنة تحكيم جائزة العويس الإماراتية ذكرت، ضمن حيثيات حصوله عليها عام 1992، إن «أعمال سليمان فياض المتعددة استطاعت أن تشق لها مسارًا ذا تميز في واقع القصة القصيرة العربية من حيث نصاعة اللغة، وعمق التناول وجدية التجربة وطرائق التعبير السردى، ويظهر ذلك منذ أعماله الأولى، حيث انتهج أسلوب التناول الواضح الحاد الذي ينأى عن الترهل اللغوى والانفعالي».. وهكذا هو سليمان فياض: جوانب متعددة في الأدب والفن والثقافة والنشاط.. والحياة أيضًا، منذ ميلاده يوم «الخميس» 7 فبراير عام 1929 حتى رحيله ليلة «الخميس» 26 فبراير 2015.
نشأ «فياض» وتربى في بيت علمٍ ودين، لأب من صغار ملاك الأراضى الزراعية حاصل على الثانوية الأزهرية ويعمل بالتعليم الإلزامى حتى يصل رئيسًا لقسم التعليم الحر بالجيزة، وكان طبيعيًا أن يتأثر المولود بالوالد ويعشق اللغة العربية ويحفظ القرآن الكريم ويدندن بعيون الشعر وينهل من ذخائر الأدب العربى، وينشر «الذبابة البشرية»، أول قصة يكتبها، في مجلة «الآداب» البيروتية عام 1954، وهو لم يزل طالبًا بالأزهر، ثم يحصل على شهادة «العالمية» من كلية اللغة العربية، ليعمل فور تخرجه بالتدريس في الأردن ليعود بعد سنوات قليلة ليمارس العمل الصحفى والإبداع الروائى إلى جانب التدريس أيضًا، كما اختارته شركات الكومبيوتر الكبرى خبيرا لغويا في مشروع تعريب الحاسوب لبعض برامج اللغة العربية.
عمل سليمان فياض بمجلات عديدة منها «الإذاعة والتليفزيون» و«الشهر» و«البوليس» و«الجمهورية»، إلى جانب مجلة «إبداع» التي تولى فيها موقع نائب رئيس التحرير، واحتضن وشجع مبدعين كثيرين من الشباب، وأصدر أول مجموعة قصصية عام 1961 بعنوان «عطشان يا صبايا»، وعبر رحلته الغنية أصدر فياض عدة مجموعات قصصية منها وبعدنا الطوفان، وأحزان حزيران، وذات العيون العسلية، أما «أصوات» فقد حظيت باهتمام عالمى منذ صدروها عام 1972، وترجمت للفرنسية 1990، والألمانية 1992، كما صدرت في توقيت واحد بالإنجليزية في لندن ونيويورك 1991، وكشف كتابه «الوجه الآخر للخلافة الإسلامية» الغطاء عن كثير من المسكوت عنه، أما سلسلة إعلام العرب فتمثل علامة بارزة في مسيرته، وقد كتبها للنشء بأسلوب سلس وعبارة جميلة وروح عاشقة لتاريخ هذه الأمة، فجعلته واحدًا من أفراد الأسر العربية في المهجر، كما تحتل مكانًا لائقًا في مكتبات الأسر المصرية، ولذلك كله استحق عن جدارة جائزة الدولة التشجيعية في الآداب عام 1970، وجائزة الشاعر سلطان العويس من الإمارات العربية المتحدة عام 1994 في مجال القصة، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2002، لكنه استحق قبل ذلك حب الناس والأدباء وعارفى فضله على الأدب العربى.
على أن المشروع القومى الضخم لسليمان فياض يتجلى في سلسلة معاجم اللغة العربية، التي أصر على إنجازها عندما ابتعد الآخرون وخذله المسئولون، فقد عرض مشروعه على جهات مصرية وعربية عديدة وكتب يقول إن الأمر يحتاج لجنة خاصة ومجموعة عمل لسرعة إنجازه، لكن العرب، كالعادة فيما يبدو، ليسوا على مستوى دول العالم التي «تعى الماضى وتعيش الحاضر من أجل المستقبل».. فاختار هو منذ عام 1988 أن يأخذ الموضوع على عاتقه، وأن يكون بمفرده وبعزيمته المؤسسة التي تتولى مسئولية المشروع، وأنجز منه عدة معاجم قدم فيها خلاصة جهده واجتهاده كعالم لغة متبحر في لآلئ العربية واستخلص رؤى واعية كانت صادمة لأصحاب العقول الخاملة، خاصةً فيما يتعلق بالأفعال الثلاثية على سبيل المثال.
ووسط كل هذا الإنتاج المتنوع، ألقى «فياض» بنفسه في خضم العمل العام، وترتسم على وجهه ابتسامة طفل برىء حين تعرفه بأنه «عضو دار الأدباء ونادي القصة والجمعية الأدبية وأتيليه القاهرة والرابطة المصرية باتحاد كتاب آسيا وأفريقيا ولجنة الدفاع عن الثقافة القومية»، ونتذكر على الفور عديدًا من مواقفه الشجاعة التي اتخذها دون صخب أو ضجيج أو مزايدة في قضايا وطنية عديدة، ومنها استقالته من موقع نائب رئيس تحرير «إبداع»، احتجاجًا على مشاركة إسرائيل في معرض القاهرة للكتاب، وحدث بينى وبينه مقاطعة لشهور عندما نشرت تفاصيل الاستقالة، وكتبت أحيى موقفه الوطنى، فقال لى يومها: «المواقف الوطنية لا نتخذها لنتاجر بها».
إن سليمان فياض يمثل مشروعًا متكاملًا يحمل قلب طفل وعقل مفكر وروح شاب وذاكرة حديدية تستوعب تفاصيل الأشياء وتمنحه القدرة على مواصلة الابتسام.
«هتوحشنا» ياعم سليمان.
باسم فياض يكتب عن والده: زرع فينا روح التحدى والتفاؤل.. وعشقه لتفاصيل الحياة لم يفارقه
لا أريد أن أشغلكم بتفاصيل مرض والدى، لكنه تعرض لكسر مضاعف في اليد اليسرى، ما أدى لإجراء عملية جراحية كبرى، ولا تكمن المشكلة هنا، ولكنها تكمن في معاناته منذ سنوات عديدة ماضية من تليف شديد في الكبد، وصلت نسبته لأكثر من 90٪، وكان طبيعيًا أن يضعف «بنج» العملية المتبقى في الكبد بشكل كبير.
بعد العملية، دخل في غيبوبة كبدية أولىة، وتم علاجه ونقله للمنزل، إلا إنه تعرض بعد يومين من رجوعه للمنزل في 24 ديسمبر لمشكلات صحية متعددة، وتولى طبيبه الدكتور جمال يوسف مشكورا علاجه بتفانٍ، وتحولت غرفته لمستشفى صغير، واستقدم له ممرضًا متخصصًا في مثل هذه الحالات وسط احتضان من كل أفراد أسرته، وهو الأمر الذي كان يساعده كثيرا على المقاومة.
وتكررت الغيبوبة الكبدية، وبذل المستشفى جهودًا خرافية لإنقاذه حتى أفاق، ولكنه فقد التركيز بشكل يكاد يكون شبه كامل، ودخل في مرحلة استدعاء العشرات من الذكريات، وسردها بشكل أدبى تصويرى رائع، مما جعل طبيبه يعلق أكثر من مرة في ذهول، وهو يقول: «لأول مرة أرى مريضًا في غيبوبة يكتب قصة بكل هذه التفاصيل».
قبل وفاته بنحو أسبوع، توقف إحساسه بالآلام التي عانى منها على مدى شهرين، واستسلم جسده الضعيف للدخول في غيبوبة كبدية من الدرجة الرابعة، صاحبته حتى غادرت روحه الجميلة الدنيا التي طالما عشقها، ووسط كل هذا كان دائم التوصية لنا على مواصلة نشر إنتاجه الأدبى واللغوى، والمواظبة على الاتصال بأبناء جيله بعد رحيله وودهم.
كان تأثير والدى على شخصى متعدد الجوانب، وربما كان أهمه أنه علمنى كيفية تحدى كل العوائق مع الاحتفاظ بالتفاؤل في كل وقت. كان والدى بالنسبة لى تجسيدا حيا لمقولة: «العالم من علم أنه لا يعلم شيئًا»، وإلى جانب موهبته القصصية أضاف لنفسه الكتابة للبرامج الإذاعية، ثم المسلسلات التليفزيونية، وهنا أتذكر الراحل أسامة أنور عكاشة عندما كان يقول دائما: «من علمنى حرفة كتابة المسلسلات هو سليمان فياض».
لا أنسى أن والدى علمنى أهم وأكبر درس في حياتى، وهو كيفية الهدوء والتعامل مع كل المصاعب بعقلية هادئة، وتقدير كل الاحتمالات الممكنة، ووضع السيناريوهات المتباينة للتعامل مع كل منها، وعندما كبرت ودرست التخطيط الإستراتيجى وجدت أن والدى كان يطبقه عمليا دون أن يدرسه، إذ بدأ يقنعنى بمساعدته والاشتراك معه في عمل معجمى ضخم، ورغم عدم درايتى في هذا الموضوع لكنه قرر أن نشكل ثنائيًا جيدًا، هو بالبعد اللغوى، وأنا بما لدى من معرفة في نظم المعلومات، وبدأ كل منا ينقل للآخر معرفته على مدى سنة كاملة في جلستى عمل كل أسبوع.
من أكثر المواقف التي زادت فخرى وإعجابى بوالدى هي تجربته في إصدار مجلة «إبداع» مع صديق عمره الشاعر الكبير أحمد عبد المعطى حجازى، وبرغم ضآلة العائد المادى وتركه لأعمال أخرى كانت تدر عليه دخلًا أكبر، إلا إن إحساسه بالمسئولية عن تقديم أدباء وشعراء جدد للساحة الأدبية كانت عالية جدا.
موقف آخر لن أنساه.. عندما تعرضت للاعتقال في أحداث حرق العلم الصهيونى في المعرض الصناعى 1980، كان تعامله مع الموقف مثار إعجاب كل أصدقائى، حتى إنه جعل الجميع يغرقون في الضحك حينما فاجأنى عند حضوره للنيابة، بإخراج كتب الجامعة من شنطة كانت معه، وقال لى: «دخول السجن مش إجازة.. الامتحانات على الأبواب.. مفهوم؟»، وعندما سألته صديقة مداعبة: «إحنا كنا فاكرين الشنطة مليئة بالطعام».. رد ضاحكا: «وماله أكل السجن؟ هو أنتم مش عايزين تبقوا مناضلين؟ إذن عيشوا التجربة بالكامل»، وانفجر كل المتواجدين في النيابة بالضحك.. وضحكت أنا الآ أيضًان وأنا أتذكر هذا الموقف.
رحمك الله يا أبى وحبى لك لن ينتهى حتى ألقاك.
من النسخة الورقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.