في الذكرى ال116 لمولدها وبعد مرور نحو 40 عاما على وفاتها تبقى سيدة الغناء العربي أيقونة لثقافة عصر، فيما تفرض أسئلة الحنين ذاتها في يوم مولدها: أنه "الحنين يسكن بين الضلوع ويطل من فسحات العيون".. "ما كل هذا الحنين الذي ينساب كصوت ماء يسقسق في ليلة هانئة وزقزقة عصافير منتشية في طمأنينة الأجنحة؟". ولئن كانت مصر والأمة العربية كلها تحتفل اليوم بأم كلثوم التي ولدت يوم 31 ديسمبر عام 1898 وقضت في الثالث من فبراير عام 1957 فإن فنها مازال يتربع في قلوب الملايين وأغانيها ذاتها تتحول إلى "أيقونة للحنين". فرغم مرور كل هذه السنوات على رحيل سيدة الغناء العربي يبدو أن هناك مدا في مشاعر الحنين لزمن صاحبة "إن كنت أسامح"، و"على بلد المحبوب"، و"سلوا قلبي"، و"نهج البردة"، و"إنت عمري"، و"الأطلال"، حيث اقترن زمنها بنهضة غنائية وموسيقية بل وطفرة إبداعية شملت المسرح والسينما والكتاب، فيما تسكن أغانيها الوطنية والقومية الوجدان المصري والعربي مثل:"والله زمان يا سلاحي"، و"يا جمال يا مثال الوطنية"، و"مصر التي في خاطري". وهى في الوقت ذاته سيدة الوجدان وشادية القلوب بلا منازع، فيما انتزهت أحلى الآهات من أعماق جماهيرها وهى تشدو: "هجرتك"، و"إنت فين والحب فين"، وتتغنى بكلمات العظيم بيرم التونسي "هو صحيح الهوى غلاب"، كما تغني لمأمون الشناوي: "أنساك"، وتبدع في كلمات الشاعر السوداني الهادي آدم: "آغدا ألقاك". وإذا كانت جمهرة النقاد والكتاب تصف أم كلثوم بأنها "مطربة القرن العشرين في مصر والعالم العربي"، فإن كوكب الشرق التي تغنت بأشعار الكبار ومن بينهم أمير الشعراء أحمد شوقي صاحب "وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"، قدمت أعظم الخدمات للشعر العربي بنشره بين أوسع قاعدة جماهيرية عربية من المحيط إلى الخليج. والغناء جزء أصيل في تركيبة الشخصية المصرية منذ فجر التاريخ، كما قال الروائي والكاتب المصري الراحل خيري شلبي، مشيرا إلى أنه حتى الفنون التي أتى بها الغزاة تحولت بعد حين يقصر أو يطول إلى "سبيكة مصرية خالصة"، فيما كانت رحلة الموسيقى الغنائية في مصر طوال القرن العشرين "جهودا مضنية وناجحة للتخلص من الطابع التركي إلى أن تحررت منه تماما على يد سيد درويش ومن بعده كل من محمد عبد الوهاب ومحمد فوزي". واعتبر خيري شلبي أغنية "إن كنت أسامح وأنسى الأسية" للشاعر أحمد رامي والتي لحنها محمد القصبجي لأم كلثوم عام 1928 تشكل ثورة في الغناء العربي حيث دشنت القالب المعروف الآن باسم "المونولوج"، أي مناجاة النفس للنفس ولم يكن معروفا أيامئذ، بينما يقول المؤرخ الموسيقي محمود كامل إن "هذه التحفة الفنية كانت نقطة تحول في تاريخ الغناء العربي". فهذه الأغنية كانت بداية مرحلة جديدة وبيع من طبعتها الأولى مليون إسطوانة، كما أن انتشارها كشف عن أن ذائقة المصريين كانت عالية وواعية وعاشقة لكل ما هو أصيل ومبدع في الكلمات والألحان والغناء خلافا لآراء ظالمة لهذا الشعب العظيم. وصاحبة "سيرة الحب"، و"ألف ليلة"، و"أنا في انتظارك"، حاضرة دوما في كثير من الإبداعات المصرية والعربية واسمها يبعث على نوع من الإبحار في ثقافة الحنين أو "النوستالجيا"، كما فعل الروائي والناقد المغربي الدكتور محمد برادة في عمله الإبداعي النابض بالحنين لأيام دراسته الجامعية في مصر "مثل صيف لن يتكرر". وفي هذه الرواية الممتعة حقا يتحدث برادة عن أول حفلة حضرها للسيدة أم كلثوم في القاهرة عام 1957 وهى تغني "أروح لمين"، فيما كان مذهولا بفرحة الجمهور وبطقوسية الاستماع والتذوق والآهات، ويتذكر أحد الحضور من أبناء البلد وهو يرتدي "جلابية بلدي ويضع طاقية على رأسه ويلف شالا أبيض حول عنقه وقد زحف بسرعة من مؤخرة القاعة إلى أن اقترب من مقدم المسرح وهو يصيح: من الأول يا ست". ويكون التصفيق وتعلو وجه أم كلثوم ابتسامة، فتشير بإصبعها لعبده صالح عازف القانون ليعيد المقطع، كما يقول الدكتور محمد برادة الذي كان قد اكتشف قبل ذلك بعام مع صديقه المغربي برهوم مقهى التوفيفية المخصص "لعشاق الست". بكل الحنين يستعيد محمد برادة المشهد في المقهى فيقول: الرءوس تتمايل وآهات تنفثها الصدور وكؤوس الشاي والقهوة والسحلب والكركديه.. وكان يؤثر المجيء مع صديقه عند المساء ويصعدان إلى الطابق الأول حيث الضوء مطفأ إلا ما تسلل من النوافذ، والمولعون ينصتون في خشوع وهم يمسكون بمبسم النرجيلة المذكية لنار الشوق. "يا ظالمني"، ويأتي صوت مجروح من زاوية القاعة المعتمة:"آه يا ست الكل وأنا راضي بظلمه"، وتشدو ذات الحنجرة الكاسحة: "ياللي رضاك أوهام والسهد فيك أحلام حتى الجفا محروم منه"، فيتأوه مستمع "محروم": "والنبي يا ست محروم". كان محمد برادة صاحب "لعبة النسيان" يجري مقارنة لطيفة بين ما شاهده في فرنسا من مظاهر الحب في الحدائق والطرقات وبين تلك الخلوة الرجالية بمقهى التوفيقية حيث يحضر طيف المحبوبة المرتجاة ويغيب جسدها ولم تكن خواطره تخلو من استغراب لأن ما لاحظه في القاهرة منذ وصوله في منتصف خمسينيات القرن العشرين يجعل من المرأة عصب الأسرة ويمنحها وجودا كاملا في مختلف المجالات. وإذا كان جيل الإنترنت لم يعش في زمن أم كلثوم وإنما سمع عنه من الأهل أو تعرف عليه عبر وسائل الإعلام ووسائط الميديا، فهل يتعامل الأكبر سنا مع ذلك الزمن كما يفعل البعض مع ذكريات السفر، أي الاحتفاظ فقط بالأوقات الساحرة ليكون الانطباع العام هو الشعور بمتعة الرحلة بغض النظر عن أي مشاق؟!.. ومن ثم هل كان "زمن أم كلثوم" قد خلا من المشاكل ومنغصات الحياة أم أن للحنين آلياته التي تغير بعض الحقائق في خضم لعبة إعادة صياغة الماضي والاحتفاظ باللحظات الطيبة وحدها؟!. للماضي سحره حتى في الثقافة الغربية وقد تخصص مهرجانات كاملة لإبداعات وأعمال في هذا الماضي لكنه يعيد استكشاف إعلام هذا الأدب ويسعى لطرح رؤى جديدة لأسماء مثل ارنست هيمنجواي وسكوت فيتزجيرالد وتي.اس. ايليوت وهنري ميلر، بل وشكسبير ذاته. وقراءة المشهد الثقافي الغربي تشير دون عناء إلى أن القرن العشرين يحظى بأهمية خاصة باعتباره قرن المدهشات والمنجزات الكبيرة في العديد من أوجه الحياة الإنسانية، كما يتجلى في كتاب جديد صدر بالإنجليزية بعنوان: "أزمنة متشظية: الثقافة والمجتمع في القرن العشرين"، وحمل مؤلفه الذي يعد من أشهر وأعظم المؤرخين في العالم حنينا جياشا لمصر ومسقط رأسه في الإسكندرية حتى اللحظة الأخيرة. ويندد المؤلف ايريك هوبزباوم في كتابه الصادر بعد رحيله بتخلي الدولة في الغرب عن دعم الثقافة والفنون، فيما يذهب ريتشارد ايفانز في جريدة "ذي جارديان" إلى أن ايريك هوبزباوم كان المؤرخ الأكثر شهرة وبريقا ليس في بريطانيا وحدها وإنما في العالم ككل، منوها بأن أعماله من أمهات الكتب تغطي تاريخ أوربا في سياق شامل من الثورة الفرنسية عام 1789 وحتى سقوط الشيوعية بعد ذلك بقرنين وترجم كتابه "عصر التطرفات" لأكثر من 50 لغة. ويرى بعض النقاد، أن ايريك هوبزباوم كمؤرخ صاحب قلم جذاب ويقدم "رواية التاريخ بصورة ممتعة من منطلق الناس للأحداث التي شكلت العالم"، كان وراء انتشار الأفكار الاشتراكية بل والماركسية "كموضة فكرية في أوربا الغربية" خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين. الغريب أن ايريك هوبزباوم وهو المؤرخ الكبير وصاحب التأثير الفكري العميق والمصطلحات الدالة مثل "البلطجة الاجتماعية"، و"المتمردون بالفطرة" كان واحدا من كبار خبراء موسيقى الجاز في بريطانيا وكان يكتب في هذا المجال ببراعة تبعث على الذهول ليجذب المزيد من الناس لموسيقى الجاز كما جذبهم لقراءة التاريخ بقلمه الممتع!. وكان هوبزباوم يرى أن الموسيقى الكلاسيكية لا مستقبل لها وإنما مكانها الماضي وحده ومن بينها سلسلة عروض "رينج" الأوبرالية التي يراها ضمن التجليات الثقافية للثورات الأوروبية في منتصف القرن ال(19). وإذا كانت قدرة ايريك هوبزباوم على رؤية المشهد الكبير "من منظور الناس أو رجل الشارع"، وابتكار الإطار المناسب لهذا المشهد بكل تفاصيله وشخوصه ورموزه تتجلى في كتابه عن الثقافة والمجتمع في القرن العشرين، فإن أم كلثوم وجدت من يضعها ثقافيا في إطار المشهد المصري-العربي في القرن العشرين وبصورة تعكس بصدق رؤية الناس أو رجل الشارع. هل كانت حياة أم كلثوم بمثابة "مونولوج" يخاطب مصر والعالم العربي؟ وكلمة "مونولوج" استخدمها هوبزباوم وهو يتحدث عن الكاتب المسرحي النمساوي كارل كراوس.. معتبرا أن هذا الكاتب الفنان كانت حياته بمثابة مونولوج لعالمه الثقافي الأوروبي. لا جدال أن أم كلثوم من أشهر نجوم الغناء العربي على المستوى العالمي وخاصة في أوروبا، غير أن الكاتب اللبناني حازم صاغية يرى أن أم كلثوم القادمة من ريف مصر كانت على علاقة تضاد مع المدينة تصل لحد الكراهية وإدانة القاهرة باختلاطها وتهتكها وخلاعتها يوم كانت العاصمة المصرية في مطالع القرن الماضي تفتح ذراعيها لفنانين وفنانات أجانب يتركون بصماتهم على الذوق المحلي المصري. لقد نمت أم كلثوم حسب قول حازم صاغية في كتاب عن كوكب الشرق بالضد من المدينة وفي سياق من الصراع معها وفي بدايات غربتها الطويلة بالقاهرة تعرضت لما يتعرض له الريفيون البسطاء المهاجرون إلى المدن على أيدي التجار والسماسرة والوسطاء فكان وكلاء الحفلات الغنائية يسخرون منها ومن أبيها ويبخسونهما حقهما. وحين اشترت قطعة أرضها الأولى لم تستطع أن تتملكها لأن العقد كان مغشوشا فدفعت المال ولم تحصل على ملكية في مقابله لكنها امتلكت قلوب المصريين والعرب ككل بعد ذلك وباتت رمزا من رموز العلاقة الوثيقة بين الفن والسلطة بقدر ما انتصرت على "ثقافة الكباريه" التي سادت في الفن لحظة مجيئها من الريف للقاهرة. الكاتب حازم صاغية تناول علاقة أم كلثوم بالسلطة في كتابه: "أم كلثوم سيرة ونصا.. الهوى دون أهله"، وقال: وكمصرية حتى النخاع أسهمت أم كلثوم في المجهود الحربي للجيش المصري بعد هزيمة 1967 فترأس تجمعا لهذا الغرض وتقدم بين ما تقدمه إسورة كبيرة مرصعة بالماس وعقدا هو عبارة عن سلسلة ذهبية مجدولة طولها متران وساعة ذهبية وعقدا آخر مرصعا بالماس. لكنها - كما يقول حازم صاغية - قبل جمع المساعدات وتقديمها، هبت واقفة وراء المجهود الحربي وقررت أن تجوب البلاد كأيزيس في محاولة للبعث وإعادة الروح ويدفعها البعث إلى فرنسا، فلا تنسى أن ترسل إلى الرئيس شارل ديجول برقية تؤكد إحساسها برسالتها وشكرها له على تأييده "العدالة والسلام". وسطعت ثقافة رفض الهزيمة في العديد من إبداعات وكتابات المثقفين المصريين في تلك الأيام العصيبة من عام 1967 فيما انطلق صوت كوكب الشرق وسيدة الغناء العربي أم كلثوم تردد ما كتبه الشاعر صالح جودت رفضا لتنحي جمال عبد الناصر واستدعاء جديدا للبطل الذي اختاره الشعب. وكشعاع ضوء في لحظات عصيبة كان المصريون يرددون كلمات الأنشودة التي غنتها أم كلثوم:"قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب.. إبق فأنت السد الواقي لمنى الشعب.. إبق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب.. أنت الخير وأنت النور.. أنت الصبر على المقدور.. أنت الناصر والمنصور.. إبق فأنت الأمل الباقي لغد الشعب". وما من شك ف أن نمو الظاهرة الكلثومية سار في موازاة تطورات موضوعية لم يكن بد من الخضوع لها والإفادة منها، ففيما يبدو حازم صاغية في كتابه مهتما بمسألة اشتقاق تاريخ الفن من تاريخ السياسة، ويقول في كتابه عن أم كلثوم: يرتب اشتقاق تاريخ الفن من تاريخ السياسة وإدراج أم كلثوم في التاريخ الثاني مقدمة التماثل بين الشعب وصوته. ولا يلبث تماثل الهوية أن يتقدم في خط مستقيم استقامة الذات القومية حين ترى إلى نفسها فتغني أم كلثوم بين ما تغنيه نشيد مصر الوطني "والله زمان يا سلاحي" عام 1956 والذي أصبح أحد النشيدين العربيين للناصرية.. ولأنها تعبر عن مصر وامتداد دورها العربي غنت لشعراء عرب من سائر البلدان.. فمن السودان غنت للشاعر الهادي آدم "أغدا ألقاك"، ومن سوريا غنت لنزار قباني "أصبح عندي الآن بندقية"، ومن لبنان غنت لجورج جرداق "هذه ليلتي"، ومن السعودية غنت لعبد الله الفيصل "من أجل عينيك". ولم يغب عن أم كلثوم البعد الإسلامي لمصر ذات الدوائر الثلاث في عرف جمال عبد الناصر، فغنت من باكستان "حديث الروح" شعر محمد إقبال.. وإذا كانت الوحدة العربية أحد شعارات مصر في زمنها الناصري فقد جمعت أم كلثوم من قلوب العرب ووحدت من كلمتهم ما عجزت عنه السياسات والادعاءات والدعايات والصحف، فالعرب لم يلتقوا من الخليج للمحيط في اتفاق ورضا حول أحد كما التقوا واتفقوا على أم كلثوم. وإذا كانت أجيال من المصريين والعرب ككل مشدودة بالحنين لأم كلثوم وعصرها فإن ايريك هوبزباوم قد خلص إلى أن مستقبل الثقافة بما فيه الفن في ظل هيمنة آليات السوق مظلم ويبعث على التشاؤم. هل تفسر هذه الرؤية عدم ظهور فنانين كبار وعدم تكرار مطرب في موهبة وقبول عبد الحليم حافظ مثلا لدى الجماهير ناهيك عن أم كلثوم في زمن العولمة؟ على أي حال بقدر ما يعبر الحنين عن لوعة الأشواق وفرقة الأحباب على ركب الرحيل، فإنه يقوم بدور فاعل حقا في أنسنة الزمان والمكان، أو "الصورة المرغوب فيها للزمان والمكان في الماضي". إنه التلاعب الإيجابي بالحقائق أحيانا من أجل حفظ التوازن الإنساني.. فالحنين بآلياته يعني حماية صورة مرغوبة.. حماية صورة حدائق العمر الجميل وعفة الذاكرة وتعزيز مناعتها ضد معاني المرارة والغربة.. إنها الغريزة الإنسانية الملهمة التي تتجاوز حدود الحواس العادية وتطور بالحنين حاسة استثنائية قادرة على الوصول للأحباب مهما ابتعدوا في المكان والزمان.