تجيب دار الأوبرا المصرية هذا الصيف على سؤال الفن والمجتمع بقدر ماتبرهن على عدم صحة مقولات ظالمة للمصريين تزعم ان سوادهم الأعظم لايتجاوب مع الذوق الفني الرفيع. وتبدو فعاليات مهرجان الأوبرا الصيفي على المسرح المكشوف نموذجا دالا لامكانية تقديم روائع الموسيقى والغناء للشعب المصري بكل اطيافه وشرائحه والارتقاء بالذوق العام للمجتمع ودحر ثقافة القبح والتلوث السمعي-البصري فيما تتجلى صحة رهانات رئيسة دار الأوبرا المصرية حول الأوبرا كمنارة ثقافية يلتف حولها كل المصريين . وتشهد ليالي القاهرة في هذا الصيف ابداعات مصرية في الموسيقى والغناء لأسماء مثل رشا يحيي ورانيا يحيي واميرة احمد والطفل الموهوب يحيي الهرميل ونسمة عبد العزيز ودينا الوديدي فيما قدم الموسيقي المبدع الدكتور جمال سلامة مفاجآة سارة لعشاق الموسيقى باطلالة شارك فيها ضمن هذه الفعاليات التي تشهد اقبالا ملحوظا وخاصة من الشباب. ومن حسن الطالع ان الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وهو المجلس الذي يشكل عقل وزارة الثقافة ان لم يكن العقل الثقافي لمصر ككل عرف باهتمامه البحثي بالعلاقة بين الموسيقى والتاريخ وتولى الاشراف على مشروع ثقافي عنوانه : الموسيقى والذاكرة وهو مشروع يشارك به 14 مؤرخا وموسيقيا ويمثل بحق خروجا حميدا على النمط التقليدي في دراسة التاريخ بقدر ماينطلق برحابة التصورات الثقافية في رحاب غير تقليدية . واذا كانت الموسيقى لغة الشعوب في العالم والتاريخ قصة هذه الشعوب فان فكرة اللقاء بين الموسيقى والتاريخ تتجسد في كتاب التاريخ والموسيقى للدكتور محمد عفيفي الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة واحد ابرز وانجب اساتذة التاريخ الذين انجبتهم المؤسسة الأكاديمية المصرية والمؤلفة الموسيقية الدكتورة نهلة مطر التي اشتركت معه في تحرير هذا الكتاب الذي يتضمن مجموعة دراسات شيقة لنخبة من الباحثين. وفيما تبدي الدكتورة رانيا يحيي كنجمة من نجوم هذا الموسم لليالي المسرح الصيفي للأوبرا اهتماما باعادة صياغة العلاقة بين الموسيقى والعالم والحلم كباحثة ومحققة الى جانب كونها عازفة موسيقية فان الروائي الروسي العملاق ديستوفيسكي عمد في روايته نيتوشكا نزفانوفا لتوظيف علاقة الداخل الانساني والأنغام في هذا العمل الروائي الابداعي حيث يتحول الكمان للذات الداخلية المرجوة وتتحول الآلات الموسيقية لرموز واذا بلغة الأنغام هي اللغة الانسانية الأعمق. فالموسيقى والتاريخ ينتميان كمجالين ثقافيين للنشاط الفكري الانساني ومن هنا يرصد كتاب الدكتور محمد عفيفي والدكتورة نهلة مطر العلاقة بين الموسيقى كفن وكتابة التاريخ والقضايا الاجتماعية والثقافية المتصلة بأثر الموسيقى في المجتمع المصري على مدى القرنين الماضيين فيما يوضح الدكتور عفيفي ان الكتاب في اصله دراسة تنطلق من مدخل التاريخ الاجتماعي للموسيقى في مصر. فهو كتاب لايعني بدراسة الموسيقى وتقنياتها وانما يهتم ويركز على المحيط او البيئة الاجتماعية-الثقافية التي تتعايش معها الموسيقى بقدر مايبرز بصورة جدلية اهمية القضايا الاجتماعية والثقافية المتعلقة بأثر الموسيقى في المجتمع. والكتاب ثمرة لقاء ثقافي مدهش بين التاريخ والموسيقى او بين المؤرخين والموسيقيين ويتضمن صفحات ممتعة عن مرحلة مابعد الحملة الفرنسية في مصر والتناول الغربي للموسيقى والتعبيرات الموسيقية عن التكوينات الطبقية في المجتمع المصري ودراسة علمية عن فرقة حسب الله التي ترجع جذورها لمحمد علي وصولا لظاهرة المطرب الشعبي احمد عدوية كظاهرة من ظواهر التاريخ الاجتماعي للموسيقى المصرية بقدر ما كانت الظاهرة متصلة بما عرف بعصر الانفتاح الاقتصادي منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين. وبسلاسة يحلق الكتاب في افاق جديدة بمعالجات غير تقليدية لقضايا تاريخية مثل لقاء الموسيقى الشرقية مع الموسيقى الغربية وانعكاسات هذا اللقاء والتواصل والتفاعل الثقافي على اذواق المصريين ناهيك عن الحداثة وتغير المجتمع المصري. واذا كان الموسيقي الروسي الشهير فاليري جريجييف يوصف ، بأنه صديق الرؤساء والاثرياء ونموذج لارتباط الفنان بالسلطة فى كل العهود كما ينظر له باعتباره الفارس الذى لايبزه اى فارس اخر على الساحة العالمية فى حمل راية التراث الموسيقى الروسى فان قصته تعبر بعمق عن علاقة الفن بالمجتمع. عندما يقود هذا الموسيقار الذى جمع بين صداقة الرئيسين فلاديمير بوتين وديمترى ميدفيديف الاوركسترا فان يده اليسرى ترفرف كما لو كانت تتلقى شحنات خفية فيما يمسك بيده اليمنى عصا صغيرة للقيادة الاوركسترالية وسرعان ماينتفض جسده ويتطوح مع ايقاعاته غير ان زميله عازف الكلارينت اندرو مارينريقول ان كيمياء الابداع ليس مصدرها يد الموسيقار جريجييف وانما تعتمل فى عقله. والموسيقار الروسي فاليرى جريجيف قائد اوركسترا لندن السيمفونية ارتبط بعلاقة صداقة مع الزعيم الروسى فلاديمير بوتين منذ عام 1992 عندما كان مديرا فنيا لفرقة كيروف المسرحية فى مدينة سان بطرسبورج وكان قد نال بالفعل شهرة عالمية كموسيقى له شأنه فيما كان بوتين ايامئذ لايزيد عن كونه النائب الأوللعمدة هذه المدينة وهو رجل اصلاحى يدعى اناتولى سوبشاك وكلاهما له شغفه وولعه بسان بطرسبورج وكان بوتين بحكم منصبه كنائب للعمدة يساند بقوة الفرقة المسرحية التى يقودها الفنان فاليرى جريجيف. على النقيض من ارتباط جريجييف بالمدينة وبالتحديد مدينة سان بطرسبورج فان الكاتب اللبنانى حازم صاغية يرى ان ام كلثوم القادمة من ريف مصر كانت على علاقة تضاد مع المدينة تصل لحد الكراهية وادانة القاهرة باختلاطها وتهتكها وخلاعتها يوم كانت العاصمة المصرية فى مطالع القرن الماضى تفتح ذراعيها لفنانين وفنانات اجانب يتركون بصماتهم على الذوق المحلى المصرى..لقد نمت ام كلثوم حسب قول حازم صاغية فى كتاب عن كوكب الشرق بالضد من المدينة وفى سياق من الصراع معها. وفى بدايات غربتها الطويلة بالقاهرة تعرضت ام كلثوم لما يتعرض له الريفيون البسطاء المهاجرون الى المدن على ايدى التجار والسماسرة والوسطاء فكان وكلاء الحفلات الغنائية يسخرون منها ومن ابيها ويبخسونهما حقهما وحين اشترت قطعة ارضها الأولى لم تستطع ان تتملكها لأن العقد كان مغشوشا فدفعت المال ولم تحصل على ملكية فى مقابله لكنها امتلكت قلوب المصريين والعرب ككل بعد ذلك وباتت رمزا من رموز العلاقة الوثيقة بين الفن والسلطة بقدر ما انتصرت على ثقافة الكباريه التى سادت فى الفن لحظة مجيئها من الريف للقاهرة. اذا كان ريتشارد موريسون الناقد الفنى لجريدة التايمز اللندنية والمتخصص فى الموسيقى الكلاسيكية يقول عن علاقة جريجيف وبوتين: ربما لاتوجد علاقة وثيقة كهذه فى تاريخ الموسيقى بين فنان وحاكم قوى باستثناء علاقة الموسيقار فاجنر ولودفيج ملك بافاريا فماذا عن علاقة ام كلثوم بالسلطة؟..لم يتحدث موريسون عن علاقة ام كلثوم بالسلطة ولكن الكاتب حازم صاغية هو الذى تحدث بل وخصص لهذه القضية كتابا كاملا عنوانه: ام كلثوم سيرة ونصا...الهوى دون أهله . وكمصرية حتى النخاع تساهم أم كلثوم فى المجهود الحربى للجيش المصرى بعد هزيمة 1967 فترأس تجمعا لهذا الغرض وتقدم بين ماتقدمه اسورة كبيرة مرصعة بالماس وعقدا هو عبارة عن سلسلة ذهبية مجدولة طولها متران وساعة ذهبية وعقدا اخر مرصعا بالماس. لكنها-كما يقول حازم صاغية- قبل جمع المساعدات وتقديمها هبت واقفة وراء المجهود الحربى وقررت ان تجوب البلاد كايزيس فى محاولة للبعث واعادة الروح ويدفعها البعث الى فرنسا فلا تنسى ان ترسل الى الرئيس شارل ديجول برقية تؤكد احساسها برسالتها وشكرها له على تأييده العدالة والسلام . ومامن شك فى ان نمو الظاهرة الكلثومية سار فى موازاة تطورات موضوعية لم يكن بد من الخضوع لها والافادة منها ففيما يبدو حازم صاغية فى كتابه مهتما بمسألة اشتقاق تاريخ الفن من تاريخ السياسة وهى مسألة استمرت فى ظل مصر الساداتية كما كانت فى عصر مصر الناصرية وهاهو الرئيس المصرى الراحل انور السادات يبدو وكأنه صاحب الخلطة السحرية لدعاء او اغنية دينية اقترنت بشهر رمضان وهى اغنية مولاى . كانت مولاى واحدة من اربعة موشحات او ادعية دينية شارك فيها الثلاثى بليغ حمدى كملحن وسيد النقشبندى كمنشد وعبد الفتاح مصطفى كشاعر وحملت الموشحات الثلاثة الاخرى عناوين : اقول امتى..ويارب..ولاالله الا الله .. لكن انشودة مولاى هى التى استأثرت بالقدر الأكبر من الاعجاب وظلت تزداد سحرا بمرور الزمن وتفيض العيون دمعا كلما انساب صوت الشيخ سيد النقشبندى بكلمات عبد الفتاح مصطفى التى لحنها بليغ حمدى.. ووصف هذا التعاون بين الملحن والمنشد والشاعر بأنه خلطة سحرية كان يقف خلفها الرئيس الراحل انور السادات . يلاحظ حازم صاغية فى كتابه عن ام كلثوم وجود صلة وثيقة بين بعض المشائخ والمنشدين الدينيين والموسيقى ويقول:ان ماعزز هذه الصلة هو ان اولئك الذين يبرعون فى اصواتهم عند القاء الاناشيد الدينية هم الذين تراودهم فكرة الاستمرار فى الصنعة فرأينا ابرز المشتغلين بالغناء والموسيقى فى القاهرة مطالع القرن العشرين وفى نصفه الأول مشائخ ازهريين اهمهم يوسف المنيلاوى وأبو العلا ومن بعدهما زكريا احمد والقصبجى او متفرعين عن عائلات فيها مشائخ ورجال دين..يبدو واضحا ان الشيخ سيد النقشبندى ينتمى لهذه السلالة المبدعة والتي تجيب بطريقتها عن علاقة الفن بالمجتمع والسلطة . وعن علاقة الفن والسلطة يفصح فاليرى جريجيف لأرثر لوبوف المحرر بنيويورك تايمز عن رأى غريب فهو يرى ان كوادر السلطة السوفييتية لم تكن غبية ورغم ان المضايقات التى تعرض لها فنانون مثل بروكوييف وشوستاكوفيتش فانها كانت تدرك جيدا ان هذين الفنانين بالتحديد هما سيدا الابداع الموسيقى فى الاتحاد السوفييتى وقامتان لايمكن الاستغناء عنهما او اسكاتهما ولكن المطلوب تخفيف حدة الانتقادات المبطنة فى ابداعات بروكوييف وشوستاكوفيتش او ترويضهما ليكونا اكثر استجابة لرغبات النظام. هكذا تؤثر السياسة فى الموسيقى والعكس صحيح سواء فى روسيا او مصر شأنهما شأن اى بلد ويقول حازم صاغية فى كتابه عن ام كلثوم:يرتب اشتقاق تاريخ الفن من تاريخ السياسة وادراج ام كلثوم فى التاريخ الثانى مقدمة التماثل بين الشعب وصوته ولايلبث تماثل الهوية ان يتقدم فى خط مستقيم استقامة الذات القومية حين ترى الى نفسها فتغنى ام كلثوم بين ماتغنيه نشيد مصر الوطنى والله زمان ياسلاحى فى عام 1956 والذى اصبح احد النشيدين العربيين للناصرية..ولأنها تعبر عن مصر وامتداد لدورها العربى غنت لشعراء عرب من سائر البلدان..فمن السودان غنت للشاعر الهادى آدم اغدا القاك ومن سوريا غنت لنزار قبانى اصبح عندى الآن بندقية ومن لبنان غنت لجورج جرداق هذه ليلتى ومن السعودية غنت لعبد الله الفيصل من اجل عينيك. ولم يغب عن ام كلثوم البعد الاسلامى لمصر ذات الدوائر الثلاث فى عرف جمال عبد الناصر فغنت من باكستان حديث الروح شعر محمد اقبال..واذا كانت الوحدة العربية احد شعارات مصر فى زمنها الناصرى فقد جمعت ام كلثوم من قلوب العرب ووحدت من كلمتهم ماعجزت عنه السياسات والادعاءات والدعايات والصحف فالعرب لم يلتقوا من الخليج الى المحيط فى اتفاق ورضا حول احد كما التقوا واتفقوا على ام كلثوم. وفى بلد بحجم روسيا لايمكن القول ان الفصل بين السياسة والموسيقى مسألة سهلة وعندما وظف جريجيف فنه الموسيقى فى خدمة السياسة الروسية اثناء حرب صيف 2008 مع جورجيا فانه كان وفيا لتراث طويل ولم يخرج عن النص المتعارف عليه فى بلاده عن علاقة الفن بالسياسة!. ومنذ زمن القياصرة الى عصر السوفييت احتلت الموسيقى مكانة شبه مقدسة فى الحياة الروسية ووجدان الشعب ولم تبتذل ابدا الا تحت القصف المستمر من جانب أسوأ النزعات التجارية للرأسمالية التى تفوقت فى جبروتها على القبضة الحديدية للسلطة الشيوعية !. نعم وحدها الرأسمالية بنزعتها التجارية المقيتة عندما ترغب فى الكسب بأى سبيل هى التى نالت من رونق الموسيقى الروسية!..وفى بلد مثل مصر خرج الملحن حلمى بكر بتصريحات قبل ثورة 25 يناير 2011 قال فيها: ان المبدعين حاليا لايجدون شيئا للتغنى به..فالحالة الاقتصادية متردية واحوال الناس تعبانة . وفى معترك السؤال الكبير والمشروع عن علاقةالفنان بالسلطة يعمد البعض لنفى الحقائق ومحاولة النيل من ابداع الفنان لاسباب ايديولوجية ومصالح سياسية تتعلق بالرغبة فى اقصاء عصر بأكمله وبرموزه الساطعة من ذاكرة اجيال حتى لاتتكرر التجربة التى اقضت مضاجع البعض. يبدو ان الموسيقار الروسى فاليرى جريجييف لم يتعرض حتى الان لمثل هذه المحاولات التى تخلط بين السؤال المشروع والتشويه المتعمد..لم يسع احد فى الغرب على الاقل حتى الان للتشكيك فى حقيقة ابداع جريجييف خلافا لما حدث مع بعض المبدعين في مصر ولاسباب سياسية!. وفاليرى جريجيف عاشق للبيكولو هذه الالة الموسيقية التى تكاد تعادل الناى فى الموسيقى الشرقية واستخدمها بمهارة عندما قدمت فرقته طقوس الربيع لسترافينسكى فى مطلع عام 2009 بلندن..وككثير من الفنانين فان جريجييف البالغ من العمر 59 عاما لايميل للنظام المفرط وبحاجة دائما لهامش من الحرية او حتى الفوضى ليتخفف من ضغوط البرنامج اليومى المزدحم بصورة قد تخنق الفنان وتنال من قدرة اجنحته على التحليق فى سماء الابداع. ولأن هناك دائما من يتربصون الدوائر بمن حققوا الشهرة العالمية والنجاح المدوى فى اى مجال بهذه الدنيا فان الفن ليس استثناء بل انه حافل بالمكايدات والاحقاد والضغائن..ولم يسلم فاليرى جريجيف من انتقادات حادة تتهمه بأنه لم يعد بالموسيقى وانما هو رجل سياسة واعمال يبحث عن الربح بالمعايير التجارية الفجة والصادمة لروح الفن. غالبا ماتعبر هذه الانتقادات داخل روسيا عن حنين خفى للعصر السوفييتى عندما لم تكن مسألة المال مبعث قلق للفنان وحتى اولئك الذين عانوا فى ظل النظام الشمولى للاتحاد السوفييتى السابق يعترفون بذلك ويسلمون بأن هذا النظام لم يخل من جوانب ايجابية للفن. وتقول عازفة البيانو نينا كوجان وهى من عائلة موسيقية مرموقة فى موسكو: فى هاتيك الأيام لم يكن شيئا يشغل بال الفنان سوى فنه ولم يكن الناس هنا منهمكين فى مشاهدة المسلسلات التلفزيونية الأمريكية او مشغولين بالكتب الرخيصة كما يحدث الآن فى روسيا التى تراجع فيها الاهتمام بالموسيقى حتى ان الموسيقى المحترف قد لايكسب من فنه مايقيم اوده . ويقول فاليرى جريجييف: على الاوبرا والباليه والسيمفونية ان تتنافس مع وسائل التسلية الشعبية ..نعم فالجمهور اختلف كثيرا عما كان عليه الحال فى زمن الاتحاد السوفييتى والجمهور شغوف الآن بنجمات الاثارة بأجسادهن الساحرة والقصص التى تنسجها الصحافة الشعبية حول اخر فضائحهن!..نجمات اسهم جريجييف ذاته فى صنع اسمائهن اللامعة مثل انا نيتريبكو واولجا بورودينا. ويصل عدد العاملين فى فرقة مارينسكى الى 2000 شخص لتكون من اكبر المؤسسات الموسيقية فى العالم وتقدم برنامجا حاشدا يتضمن الاوبرا والباليه والموسيقى الاوركسترالية كما تقدم عروضها داخل روسيا وفى الخارج ويحرص فاليرى جريجييف على توظيف علاقاته الجيدة برجال الكرملين للحصول على دعم مالى مستمر لهذه الفرقة الكبيرة. وهاهو يسترجع السنوات الثلاث العصيبة التى انتهت بانهيار الاتحاد السوفييتى ويقول بمرارة لكاتب سيرته جون اردوين : كانت الاوضاع فى اعوام 1989 و1990 و1991 لاتطاق فالدولة تتمزق وكما حدث فى مجالات شتى فان بعض انبه وافضل الموسيقيين غادروا الدولة التى تغرق للخارج ليعيشوا فى المهجر مثلما فعل جيدون كريمر ويفجينى كيسين وفاديم ريبين وماكسيم فينجيروف. خسر الوطن الكثير من افضل الموهوبين واروع المبدعين دون ان يكترث احد سواء من الشيوعيين الذين حكموا الاتحاد السوفييتى او من جاؤوا لحكم روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وهم يعتبرون انفسهم من الديمقراطيين . ومن هنا حرص جريجييف كل الحرص على منح اولوية لمسألة احتضان ورعاية الموهوبين من الشباب الروسى فى الموسيقى وتهيئة بيئة اقتصادية تحفزهم على البقاء داخل الوطن بدلا من التسرب للخارج. وللانصاف فان فرقة مارينسكى باتت واحدة من اشهر الفرق الموسيقية فى العالم فيما تعد الاشهر على الاطلاق داخل روسيا التى تراجعت فيها مكانة فرقة مسرح البولشوى رغم ان مسرح البولشوى هيمن على الحياة الثقافية فى روسيا طوال العصر السوفييتى. الآن تعانى فرقة البولشوى المسرحية من الركود وجمود الأفكار فضلا عن نزاعات داخلية ويتذكر جريجييف بأسى رفض الرئيس الروسى السابق يلتسين فى لقاء جمع بينهما فى شهر يناير عام 1998 طلبه بزيادة الرواتب التقاعدية الضئيلة لقدامى الموسيقيين والفنانين. والغريب ان الرئيس الذى رفض ان تمد الدولة يد العون لفنانين لايجد بعضهم مايسد الرمق هو ذاته الذى تحمس فورا لاقتراح طرحه جريجييف ببناء مسرح جديد على النموذج الأمريكى ووافق على تقديم الدولة الدعم المالى لتنفيذ هذا الاقتراح بتكلفة تعادل 30 مليون دولار امريكى. انه الولع بأمريكا والرغبة فى محاكاتها كما يفسر جريجييف هذه الاستجابة الفورية من جانب يلتسين!..وفيما بعد نجح جريجييف فى توظيف علاقاته الوثيقة بكبار المسؤولين واثرياء روسيا الجديدة لبناء دار اوبرا لفرقة مارينسكى تصل تكاليفها الى 500 مليون دولار امريكى. انه الموسيقار الذى ينتمى لتلك المدرسة التى تجعل المشاهد يجلس على حافة مقعده فى دار الاوبرا مشدودا للعرض وكله تركيز فيما يحدث امامه وهو يتوقع مفاجآت فنية فى اى لحظة ونقطة البداية لذلك كله حضوره الطاغى وتأثيره الملهم على اعضاء فرقته!. عندما كان فاليرى جريجييف فى الرابعة عشرة من عمره توفى والده فى يوم يصفه فاليرى بأنه اليوم الأكثر حزنا فى حياته وانصرف الفتى اليتيم ليفرغ احزانه فى العزف على البيانو وتعلم من استاذه ايليا ميوسين ان يكون صاحب شخصية ميزة ولون خاص فى الموسيقى...والأهم انه تعلم اهمية احترام الجمهور عبر الصدق والاخلاص فى الفن والا فان الجمهور سينصرف والأضواء ستطفىء. والحقيقة ان الأوبرا المصرية نجحت حتى الآن في موسمها الصيفي هذا العام في جذب الجمهور فيما تسطع اضواء المسرح الصيفي او المكشوف على وجوه ناضرة ومتلهفة لكل ماهو جيد وبعيد عن الاسفاف خلافا لمقولات ظالمة للمصريين !.