غريب أمر أمريكا تتحدث عن تدخل سوري في الشأن اللبناني رغم أن سوريا لم تفرض نفسها علي لبنان ولم تحتل أراضيه ولم تقتل أناسه ولم تسلب ثرواته.. فقط لبت نداءه في يوم من الأيام وبطلب من حكومته الشرعية لمساعدته في إنهاء الحرب الأهلية وترسيخ الأمن والاستقرار.. وفي الوقت الذي تحاصر فيه أمريكا سوريا بضغوطها ومطالبها تغض الطرف عن إسرائيل التي تمارس البشاعات اليومية في الأراضي الفلسطينية بين اغتيالات بالجملة وتدمير للمقدرات ونسف للمنازل واعتقالات وتجريف للأراضي ومصادرة لها. أمريكا بعثت "بوليام بيرنز" إلي سوريا السبت الماضي ليحذر في الأساس من مغبة التدخل في العملية السياسية اللبنانية ويتوعد سوريا بلسان أمريكا ويكرر مطالب القطب الأعظم وأولها الكف عن التدخل في لبنان وسحب قواتها منه، وعدم التدخل في العراق، وكبح جماح حماس والجهاد بدعوي التأثير الذي تمتلكه علي تفعيل أعمال العنف في الضفة وغزة، وكبح جماح حزب الله بدعوي دوره في دعم العنف وأعمال الإرهاب التي تحدث في الضفة وغزة ضد إسرائيل وهي قضايا سببت التوتر بين أمريكا وسوريا منذ أكثر من عام وعليه فهي ليست بالمطالب الجديدة وليست وليدة الساعة.. بيد أنها استعرت وزادت حدتها بعد سقوط نظام صدام وإحساس أمريكا بأنها انتصرت وباتت أمريكا هي الجارة لسوريا اليوم. إملاءات إسرائيلية لاشك أن زيارة "بيرنز" الأخيرة جاءت في إطار جس النبض حيال الضغوط التي تمارسها أمريكا علي سوريا وإمعاناً في فرض الهيمنة، ما تريده أمريكا من سوريا هو تلبية كل المطالب وتنفيذها دون نقاش وإلا فمنطق العصا الغليظة يظل سيفاً مصلتاً علي رقبة سوريا وسياستها يهددها بأنها ستكون الهدف المقبل لأمريكا.. لقد نشطت إسرائيل في التحريض ضد سوريا فما يهمها أن تظل العلاقات متردية بينها وبين أمريكا وما تفعله الآن هو تحريك اليمين المسيحي المتطرف في إدارة بوش من أجل تضييق الخناق علي سوريا وحملها علي تنفيذ رغبات إسرائيلية بحتة بداية من الانسحاب من لبنان مروراً بكبح حزب الله وحماس والجهاد وانتهاء بدعم أمريكا في العراق ومراقبة الحدود لمنع تسلل من تسميهم بالارهابيين.. وتستجيب إدارة بوش لإملاءات إسرائيل بل وتزداد الاستجابة وتأخذ منحني تصاعدياً مع قرب الانتخابات الأمريكية. من المستفيد؟ لا يخفي فإن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من ذلك، فانسحاب سوريا من لبنان سيوفر لها أرضية تستفرد فيها بلبنان وعندئذ تضمن نشر القوات اللبنانية علي الحدود الجنوبية وهو ما سعت إلي تحقيقه منذ فترة وتضمن كبح جماح حزب الله الذي لا تنسي أنه المقاومة التي أجبرتها في يوم من الأيام علي الانسحاب بليل في الرابع والعشرين من مايو سنة ،2000 وتضمن القضاء علي البنية التحتية لحماس والجهاد أي القضاء كلية علي المقاومة لتصبح الساحة الفلسطينية خالية أمامها تعيث فيها فساداً ولتتمكن بعد ذلك من تصفية القضية الفلسطينية كلية. تفويت الفرصة.. إن كل التحركات الأمريكية التي تجري اليوم ليست إلا محاولة لتسجيل نقاط مع سوريا لمواجهات محتملة معها وايجاد الذريعة للتحرش بها أكثر وأكثر بهدف حملها علي أن تكون أداة قمع للمقاومة علي الجبهتين العراقية والفلسطينية وليبدو هذا متسقاً مع حملة أمريكا ضد الإرهاب وهي الورقة التي يعتمد عليها بوش في الانتخابات التي ستجري في الثاني من نوفمبر القادم.. لقد كان الرئيس بشار الأسد حريصاً علي تفويت الفرصة علي إدارة بوش بالنسبة لدائرة الضغوط الاستثنائية التي تحاول تطويق سوريا بها سواء عبر قانون محاسبة سوريا وبدء فرض العقوبات عليها بمقتضاه في الحادي عشر من مايو الماضي أو قرار مجلس الأمن الأخير 1559 الذي صدر في الثالث من الشهر الحالي.. وما فعله بشار أنه أكد لإدارة بوش عبر بيرنز أن القوات السورية لن تبقي إلي الأبد في لبنان وأنه وفقاً لاتفاق الطائف فان القوات السورية أجرت أربع عمليات إعادة انتشار خلال السنوات الثلاث الأخيرة وتم سحب عدد كبير منها إلي داخل الأراضي السورية. لقد كانت هناك حاجة ماسة لطمأنة إدارة بوش أيضاً بالنسبة لموقف سوريا من العراق خاصة أن فحوي الرسالة التي نقلها ويليام بيرنز إلي سوريا كانت تحمل شبهة اتهام لها بأنها تستخدم أراضيها كقاعدة لزعزعة الاستقرار في العراق لاسيما أن الشأن العراقي وعملية ضبط الحدود هو الهاجس الأكبر لأمريكا اليوم لاسيما مع اقتراب موعد الانتخابات. رسالة عبر مصر.. ولعل زيارة بيرنز إلي مصر الأحد الماضي والتي قيل إنها جاءت أساساً للتباحث حول القضية الفلسطينية كان من أهم أهدافها تمرير رسالة عبر مصر إلي سوريا بضرورة سحب قواتها من لبنان وضرورة مراقبة حدودها مع العراق ومنع تسلل أي عناصر إلي الأراضي العراقية حتي يتحول الوضع الأمريكي هناك إلي مأزق يصعب علي إدارة بوش الخروج منه، وما يتطلبه هذا من حرص سوري علي التوصل إلي حلول منطقية للقضايا العالقة والتوصل إلي قواسم مشتركة مع أمريكا حولها.. تري هل ستبلغ مصر الرسالة إلي سوريا؟ حتي إذا حدث فلن يكون وفق المنطوق الأمريكي..