لا حديث للتوانسة هذه الأيام إلا عن المستقبل السياسي للبلاد في ظل حكم إسلامي بعد أن فاز حزب النهضة بغالبية المقاعد في المجلس التأسيسي، وتولي أمينه العام حمادي الجبالي رئاسة الوزراء وتولي حقائب مهمة خاصة في بلورة العقل التونسي والموقف السياسي مثل التعليم العالي والثقافة والخارجية. فتونس التي كانت أبعد ما يكون عن هذا النهج في السابق وتتفاخر بذلك أعطي ناخبوها غالبية أصواتهم لفصيلين من الإسلاميين، النهضة من جانب، وحزب العريضة المولود من رحم النهضة حيث كان رئيسه الهاشمي الحامدي من القيادات الطلابية عندما كانت النهضة "حركة" في الثمانينيات. والعريضة التي شكلت المفاجأة في الانتخابات وجاءت في الترتيب الثالث ب26 مقعدا بعد النهضة، وبعد حزب المؤتمر الذي يرأسه المرزوقي، كانت محل سخرية من التونسيين، حيث جاء فوزها من خلال شاشة تليفزيون المستقلة الذي يملكه "الحامدي" ويبث من لندن ويرشح الأخير نفسه للرئاسة ويقول من خلال التليفزيون بثقة تثير تهكم التوانسة أنه "مازال في تردد وحيرة من أين سيدير البلاد: هل سيحكم من قصر قرطاج، أم يحوله إلي متحف وينقل مقر الرئاسة إلي حي التضامن" وهو أفقر الأحياء التونسية وأكثرها عشوائيات؟!.. ويعد "الحامدي" الفقراء بالتمتع بالسكن وبالخدمات الصحية المجانية، وكبار السن والمتقاعدين بالنقل المجاني، ويعد الشباب بتوفير فرص العمل، وهو يتحدث بأسلوب عاطفي ويعد بالمدينة الفاضلة وجني عائدا سريعا من وراء تلك اللغة الخطابية التي لم يتعود عليها الناس حيث أعطوه أصواتهم خاصة المناطق المحرومة مثل سيدي بوزيد التي هي مسقط رأسه. المثقفون في تونس يقولون إن النهضة حصدت الأصوات لأنها اتخذت من المساجد منابر للترويج لدعايتها طوال اليوم وبعد كل صلاة، وهذا نفس ما يحدث في مصر من طرف الاخوان والسلفيين، والمحنكون من السياسيين في تونس يرون أن أحد أسباب فوز النهضة أيضا "الفلول" من الحزب الحاكم السابق لأنهم أخذوا عهدا سريا من النهضة بعدم تحريك المزيد من قضايا الفساد المالي ضدهم بينما يري العديد من حزب العريضة الإسلامي استقطب بدوره أغلبية أصوات حزب التجمع المخلوع وإن المال أيضا لعب دورا رئيسيا في عملية جني الأصوات. لكن بعض التنويريين يرون في تولي النهضة حكم البلاد في هذه المرحلة الصعبة اختبارا صعبا، حيث يعتقد المواطن العادي بأنه حان الوقت لتجريب الإسلاميين - ولم لا - حتي لا يقال دائما إنهم حرموا من السلطة، ولم يأخذوا فرصتهم - والحقيقة ان عليهم الكثير لعمله. لكن علي صعيد آخر، فإن التخوفات من النهضة غير خافية في الشارع التونسي، رغم تطميناتها حول عدم المساس بقوانين الأحوال الشخصية والحفاظ علي وضعية المرأة التي تتمتع منذ أكثر من نصف قرن بمنع تعدد الزوجات ومشاركة كاملة في جميع الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. وفي الملف الخارجي يرفض العديد من التونسيين دخول قطر علي الخط في عدد الملفات في الآونة الأخيرة، وقد أدي راشد الغنوشي زعيم النهضة أول زيارة له بعد الانتخابات إلي الدوحة، فيما يبدو أن قطر تتولي الوساطة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية خاصة ارسال تطمينات إلي الغرب بأن الحكم الإسلامي في تونس لن يكون نموذجا إيرانيا بل سيكون حليفا لأمريكا والغرب، غير أن كل تلك الارهاصات لا تعجب الثوار الذين صنعوا ثورة 14 يناير، والذين يطالبون باستقلال الموقف التونسي وعدم تبعيته لأي جهة، وهؤلاء لديهم مرارة كبيرة يحث يشعرون بعد الانتخابات ان الثورة التونسية "سرقت" وان من لم يشارك فيها بفاعلية - والتحق بالركب تاليا مثل الإسلاميين، هم وحدهم من اختطفوها! ولعل نفس هذه التحليلات يشترك فيها ثوار ميدان التحرير أيضا الذين يري بعضهم أن الاخوان خير من استغلوا الثورة لصالحهم يستعدون لجني الأغلبية في البرلمان بمساعدة عن قصد أو غير قصد من أطراف مثل المجلس العسكري، والأحزاب المتحالفة معهم أو التي لم تنظم صفوفها. وعلي كل فإن المقولة الباقية الآن وهي قيمة ايجابية علي كل لسان في تونس هي ان العودة إلي الشارع أصبحت سهلة وكلمة "ديقاج" بالفرنسية والتي تعني "إرحل" قد يرفعها التونسيون مجددا للنهضة ولأي حكومة اذا لم يعجبهم حكمها، فلن يعود الخنوع أبداً بعد اليوم!