أصبح انتشار الفساد في عصرنا ظاهرة متزايدة الخطورة، خاصة انها تتسم بالشمول ولا تكاد تترك بلدا من بلدان العالم إلا وتغلغلت فيه وان اختلفت الدرجات، وما يزيد من صعوبة مكافحة الفساد وآثاره المدمرة للاقتصادات القومية، أن كثيرا من الهيئات المنوط بها مكافحة الفساد، قد ضربتها هذه الآفة الخطيرة بحيث أصبح من الممكن إن يقال أن حاميها صار حراميها! وقد أقلق المشرعين ذلك لأن المكلف بمقاومة الشر والفساد، هو نفسه ضالع في الشر والفساد أو مساعد عليه أو متستر عليه، ومن هنا يصعب ايجاد من يصلح للمقاومة وحصار الفساد لأن أهل الخير عادة "علي نياتهم" ولا سلطان لهم وهم مشغولون بشئونهم عن تتبع أهل الفساد ومع ذلك أدي المشرعون واجبهم كل في بلده وأصدروا القوانين الجنائية العامة والتكميلية لأغراض المكافحة ولكن ذلك لم يمنع الفساد في الأرض. ونظرا لأن انتشار الفساد في هذا العصر جاء من صيرورة الأرض قرية قد لا يعرف الانسان فيها ما يجري في الشقة المجاورة له، بينما يعرف ما يجري في قارات أخري من ألوان الفساد ويعقد العزم علي أن يمارسها فورا، لذا فإن المكافحة لم تعد محلية فقط بل أصبحت دولية أو عالمية، ومن ذلك علي سبيل المثال لا الحصر: - اتفاقية البلدان الأمريكية لمكافحة الفساد (مارس 1999) - اتفاقية مكافحة الفساد بين موظفي الجماعات الأوروبية أو موظفي الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (مايو 1997) - اتفاقية مكافحة رشوة الموظفين العموميين الأجانب في المعاملات التجارية الدولية (نوفمبر 1997) - اتفاقية التعاون الجنائي بشأن الفساد (يناير 1999) - اتفاقية التعاون القانوني المدني بشأن الفساد (نوفمبر 1999) اعتمدتها اللجنة الوزارية لمجلس أوروبا. - اتفاقية الاتحاد الأفريقي لمنع الفساد ومحاربته (يوليو 2002) - اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية (دخلت حيز النفاذ في 29 سبتمبر 2003). - وثيقة الأممالمتحدة بعنوان (الفساد ومبادرات تعزيز النزاهة في البلدان النامية). - وأخيرا وليس آخرا اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الفساد (ديسمبر 2003). ومع كل هذه الجهود فإن الفساد يزداد قوة وتمكنا، وهذه الاتفاقية الأخيرة هي التي أريد التركيز عليها لأنها موقع عليها في مصر وقد ألمحت بعض الصحف إلي أن هناك نية لإنشاء لجنة قومية لمكافحة الفساد، ولا نعلم ما إذا كان هذا الخبر لتجميل الصورة قبل الانتخابات أم أنه حقيقي، وفي جميع الأحوال فإنه ليس كافيا تشكيل لجنة لأن الأمر أعمق من ذلك بكثير وإليك الأسباب: أولا: انه في مجال مكافحة الفساد كلما ارتفعت مرتبة الساعي في الأرض فسادا كان من الأصعب تقويمه أو تنحيته أو تقليص سلطته، لذا يجب أن يكون من بين سلطات الرقابة وكشف الجرائم أجهزة قوية مثل الجهاز المركزي للمحاسبات وهيئة الرقابة الادارية ومباحث الأمول العامة فضلا عن أجهزة المخابرات، ولبعض هذه الأجهزة تقارير سنوية عما تضبطه من الوقائع والجرائم، ولكنها لا تنشر، بل توزع علي أعضاء مجلسي الشعب والشوري ورئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وعدم الشفافية علي هذا النحو يجعل الفاسدين في مأمن تام من افتضاح أعمالهم وعدم الشفافية من أهم ما ينسب إلي مصر من الأخطاء. ثانيا: أن اللجنة السابق الإشارة إليها ستجتمع وتنفض دون نتيجة وسوف تتأثر بالضغوط السياسية والوساطات لذلك فيجب أن يعلم الجميع أن الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد ترسم خطوطا عريضة وتترك للتشريعات الوطنية المجال للتفاصيل، لذلك لا مناص من اصدار قانون لمكافحة الفساد أو عدة قوانين ولوائح تنفيذية وقرارات إدارية تبدأ من المستويات العليا وتتدرج نزولا وتناسب التجربة المصرية في المكافحة وتناسب ألوان الفساد التي يشكو منها الشعب. ثالثا: ان الاتفاقية تدعو جهات غير حكومية ومن المجتمع المدني للمشاركة في محاربة الفساد.. وهذه الدعوة لا يجوز للسلطات ان تقيدها بقيود تزيد من الفساد، مثل الادعاء بأن هذه المشاركة عمل سياسي وأنه لا يجوز لطوائف معينة من المجتمع ممارستها فمحاربة الفساد قضية قومية وواجب قومي ووطني علي كل من يعلم شيئا. رابعا: هناك مشكلة تجعل الإبلاغ عن الفساد مجازفة، حيث يتلقي المبلغ تهديدات بالقتل أو بخطف أحد أفراد أسرته أومحاربته في رزقه، ومن المعلوم أيضا أن التبليغ عن الجرائم واجب قانوني ولذا فإن قانون مكافحة الفساد يجب أن