المجتمع منهمك في جدل ساخن حول قضايا فرعية مثل النقاب، ومباراة كرة القدم بين مصر والجزائر، وغيرهما من سفاسف الأمور، بينما توجد قضايا جدية وعلي أعلي مستوي من الخطورة، وتمثل تحديا حقيقيا لبقاء هذه الأمة، ومع ذلك فإنها تتوه في زحام الصخب الأجوف والتافه وهي قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية كبيرة أضيفت إليها مؤخرا قضية التغيرات المناخية. ولم يعد الحديث عن التغيرات المناخية مجرد احتمالات أو ضربا من الخيال العلمي، بل أصبح هناك ما يشبه الاجماع بين العلماء علي أن هذه التغيرات تجري بوتائر متسارعة وستكون لها نتائج خطيرة علي البشرية. ولسنا بعيدين عن دائرة الخطر، بل إننا نقف في قلبه ووفقا لقائمة صادرة عن البنك الدولي مؤخرا فإن هناك سبع دول عربية ضمن قائمة الاثني عشر بلدا الأكثر تأثرا بهذه التغيرات المناخية والتي تنطوي علي خمسة تهديدات رئيسية بدءا من الجفاف، ومرورا بالفيضانات والعواصف وارتفاع مستوي مياه البحر، وانتهاء بنقص الغذاء. ففي قائمة أكثر من 12 دولة مهددة بخطر الجفاف جاءت موريتانيا في المركز السابع، ثم السودان في المركز التاسع، كما ضمت قائمة الدول المهددة بخطر ارتفاع منسوب مياه البحر كل من مصر في المركز الثالث تليها تونس في المركز الرابع ثم موريتانيا في المركز السادس وليبيا في المركز الثاني عشر والأخير. وباعتراف تقرير رسمي صادر عن وزارة الدولة لشئون البيئة منذ عام 2006 فإن "مصر تعتبر من أكثر دول العالم تضررا من آثار التغيرات المناخية". ولنأخذ واحدا فقط من التحديات التي تطرحها قضية تغير المناخ ألا وهو تحدي ارتفاع مستوي البحر وسنجد دراسة مهمة عن "تأثير تغير المناخ علي البلدان العربية" أعدها الدكتور محمود المدني تؤكد أن مصر "تعتبر من البلدان شديدة التعرض لتأثيرات ارتفاع مستوي البحر فارتفاع مستوي البحر مترا واحدا يؤثر في 6 ملايين شخص في مصر، يؤدي إلي خسارة 12 إلي 15% من الأراضي الزراعية في منطقة دلتا النيل ومن المناطق المعرضة لخطر شديد في مصر أجزاء من محافظات الاسكندرية والبحيرة وبورسعيد ودمياط والسويس. وإذا لم تتخذ إجراءات وقائية.. فإن القطاع الزراعي سوف يتأثر سلبا بشدة "خسارة أكثر من 90% من مجموعة مساحة المحافظات المعرضة للخطر"، يليه القطاع الصناعي "خسارة 65%" والقطاع السياحي "خسارة 55%" نتيجة ارتفاع مستوي البحر نصف متر". وبالإجمال سوف يتأثر الناتج المحلي الإجمالي في مصر إلي حد بعيد. من جانب آخر قال الدكتور مصطفي كمال طلبة الخبير العالمي في مجال البيئة والمدير الاسبق لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة إن "البحوث المحلية والدولية تؤكد زيادة مستوي سطح البحر بنحو 18 سنتيمترا عام 2010 وهجرة نحو ربع مليون نسمة وتزايد الهجرة علي 2025 إلي نحو نصف مليون نسمة تزداد إلي 5.1 مليون نسمة عام 2050". والحكومة المصرية ليست جاهلة بهذه التغيرات المناخية الرهيبة، أو بآثارها المروعة، لكن السؤال هو ماذا فعلت؟ التقرير الرسمي الذي نتحدث عنه يجيب عن هذا السؤال بقائمة طويلة من "المهام" التي تندرج تحت عنوان "دور مصر في قضية تغير المناخ" منها: 1 المؤتمرات وحلقات العمل الدولية. 2 المشروعات: ومنها علي سبيل المثال الانتهاء من المرحلة الأولي لتنفيذ مشروع تقرير الابلاغ الوطني الثاني لمصر بمشاركة عدد من قطاعات الدولة، واستكمال تنفيذ المرحلة الأولي من مشروع الاستفادة من الطاقة الشمسية في المنتجعات السياحية وقري الاستصلاح الجديدة بالتعاون مع الجانب الايطالي، واستكمال مشروع تنمية القدرات لآلية التنمية النظيفة، واستكمال مشروع تحسين كفاءة الطاقة وتخفيض غازات الاحتباس الحراري، واستكمال تنفيذ مشروع برنامج المنح الصغيرة التابع لمرفق البيئة العالمي والذي تنفذه إحدي الجمعيات الأهلية. أما عن الخطة المستقبلية من 2007 إلي 2012 فتتضمن: 1 الانتهاء من إعداد تقرير الابلاغ الوطني الثاني لاتفاقية الأممالمتحدة الاطارية للتغيرات المناخية. 2 وضع نموذج إقليمي لمحاكاة التغيرات المناخية لمنطقة حوض نهر النيل للتنبؤ بالوضع المستقبلي لتوافر الموارد المائية. 3 تنفيذ مشروعات لتقييم التهديد ومخاطر التغيرات المناخية التي تواجه مصر. 4 تنفيذ مشروعات التأقلم مع التغيرات المناخية والتي يتوقع أن تؤثر علي مصر في القطاعات المختلفة. 5 تنفيذ مشروعات استرشادية للتخفيف من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري تهدف إلي نشر استخدام تكنولوجيا الطاقة النظيفة. 6 الترويج لتنفيذ أكبر عدد من المشروعات تحت مظلة آلية التنمية النظيفة. 7 تفعيل دور اللجنة الوطنية للتغيرات المناخية للمشاركة الايجابية في اجتماعات الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتغيرات المناخية. لكن جريدة "اليوم السابع" نقلت عن العالم الكبير مصطفي كمال طلبة قوله إن "كل ما قامت به الحكومة من مجهودات تمثلت في لجان اسمية لمواجهة الظاهرة لا تفعل ما تقوله بل تكتفي بعقد مؤتمرات وحضور بعضها دون أي خطوات فعلية تجاه حل أزمة التغير المناخي التي تعد مصر من أكثر دول العالم تأثرا بتبعاتها السلبية، بل لم تفكر حتي في وضع خطة وطنية لمواجهة الظاهرة". وباختصار يقول الدكتور طلبة إن "الحكومة نايمة في العسل". وربما يؤكد ما قاله الدكتور مصطفي كمال طلبة أن الحزب الوطني الديمقراطي لم يتطرق إلي هذه القضية الخطيرة في مؤتمره السنوي السادس الذي عقد مؤخرا، ولم يشر إليها مجرد اشارة علي مدي ثلاثة أيام متصلة تحدث فيها عن كل شيء، فيما عدا قضية تغير المناخ وما ستؤدي إليه في مصر، وكيف يمكن مواجهة الآثار الاقتصادية والاجتماعية الرهيبة الناجمة عنها. يؤكد ذلك أيضا اخفاق الحكومة للسنة الحادية عشرة في حل مشكلة بيئية أقل جسامة، هل مشكلة السحابة السوداء التي تكتم علي أنفاس الناس وتصيب الأطفال والكبار علي حد سواء بأمراض وأزمات صحية كثيرة. وهذا ما يعطي للرأي العام الحق في التساؤل: إذا كانت الحكومة عاجزة عن مواجهة مشكلة بيئية محدودة مثل السحابة السوداء، أو مثل القمامة، فكيف نتصور أنها يمكن أن تواجه الآثار الخطيرة لأزمة معقدة، مثل أزمة التغيرات المناخية، بنجاح واقتدار؟ لكن يبقي أن الموضوع أخطر من طرح علامات الاستفهام وعلامات التعجب، بل أصبح يحتاج إلي ايجاد وعي مجتمعي بجسامة هذا الخطر الوشيك، وايجاد إرادة مجتمعية لمواجهة هذا الخطر محليا وإقليميا وعالميا.. لأن البديل هو الانتحار.