أتيحت لي عدة مناسبات خلال الشهرين الماضيين لزيارة الجالية التونسية المقيمة في مطروح والحمام والإسكندرية. ولهذه الجالية قصة طريفة، ربما لا يعرفها الكثيرون في مصر. فقد هاجروا إلي مصر منذ بدايات القرن التاسع عشر، بعضهم جاء من موانئ صفاقس وقابس وجربة إلي ميناء الإسكندرية، وكانوا تجارا، فأقاموا فيها، حيث استطاب لهم العيش وتزوجوا زوجات مصريات، أيام كان تعدد الزوجات غير ممنوع في تونس، وكونوا عائلات، وظلوا علي اتصال بالوطن الأم تونس ونشطت تجارتهم، ربما بشكل أكثر نجاحا مما نراه من محاولات رجال الأعمال في البلدين الآن، علي الرغم من صعوبة الانتقالات والاتصالات في تلك الأيام. وسجلوا قصص نجاح باهرة، وكانوا أفضل سفراء لبلدهم قبل ظهور الدبلوماسيات وعندما كانت الحدود مفتوحة لا يتطلب الانتقال تأشيرات دخول وفي الإسكندرية يقيم عميد الجالية التونسية، ويدعي محمود الجراية، وهو رجل أعمال ناجح، وهو عميد أيضا لعائلة الجراية التي أصبحت تعد بالعشرات، وتتفرع إلي عدة أجيال. ومازال فرع آخر لهذه العائلة العريقة يعيش في مدينة صفاقس. أما الجالية التونسية في مطروح والحمام، فلها قصة أخري طريفة جدا، حيث جاء جدهم الأول عام 1830 ويدعي المحجوب وينحدر من مدينة "قصور الساف"، التابعة لولاية المهدية بالوسط الشرقي علي ساحل البحر المتوسط لتونس. وقد استقر الجد الأول في كفر الزيات وتزوج من هناك، وأنجب ستة أبناء، لكنه أخذ يبحث عن البيئة المناسبة والمشابهة لبيئته في تونس، فاختار مدينة الحمام ولم تكن بها أية مقومات للحياة، لكنه ارتاح في تلك الطبيعة الساحلية المتوسطة، ونشط في تربية المواشي، ومهنة الجزارة وساهم في تحقيق تنمية شاملة للمنطقة بكاملها حتي أصبحت مدينة كما نراها الآن كذلك ورث أبناؤه وأحفاده نشاطه حتي أصبح اليوم غالبية الجزارين في الحمام من أسرة "أبو اليزيد" من نسل جدهم الأول المحجوب، بينما انتقل بعض أحفاده إلي الاستقرار في مطروح، وهم من نسل شوشة، وحسن علي، أبناء عمومة "أبو اليزيد". والغريب في أمر هذه العائلات أنهم أخذوا بنصيحة جدهم، في احتفاظهم بجنسيتهم التونسية، وتواصلهم مع عشائرهم من أبناء عمومتهم وأقاربهم في قصور الساف. ويروون عن جدهم أنه كان يحذرهم من التفريط في انتمائهم التونسي لدرجة أنه قال من يغير جنسيته كأنه غير دينه! وتوارثوا هذه النصيحة التي تحولت إلي شبه عقيدة، وكانوا يذهبون إلي القنصلية الفرنسية في الأسكندرية، عندما كانت فرنسا تحتل تونس، ويسجلون مواليدهم، ولم يحاولوا التقدم بطلب للحصول علي الجنسية المصرية، علي الرغم من انهم يملكون بيوتا، ويمارسون نشاطهم بشكل اعتيادي في محافظة مطروح، ويستثمرون في عدد من المجالات هم وأبناؤهم ومتوطنون لما يقارب القرنين ويعتبرون مصر بلدهم، بل وغالبية أبناء العشيرة لم يروا تونس التي يحملون هوياتها ولو مرة واحدة. وعندما زرت عائلات منهم مؤخراً، لم يكن من السهل تمييزهم عن أي مواطن مصري يعيش في تلك المناطق. فالملابس متشابهة مع مظهر أبناء الصحراء الغربية عموما، والملامح، والشكل العام، واللهجة.. وكل عناصر الثقافة والعادات والتقاليد تتطابق مع ثقافة السكان في محافظة مطروح، خاصة في القري الحدودية. وشعرت بالسعادة لأن جميع أفراد تلك الجالية التونسية الضاربة بحذروها في التاريخ والذين يزيد عددهم علي الألفين في مطروح والحمام فقط، لهم ولاء لمصر التي اختارها جدودهم كمكان يطيب فيه العيش، وقاموا بالتنمية، فاستثمروا أموالهم في مشروعات ناجحة، واشتروا البيوت والأراضي وعمروا، لأنهم شعروا بالطمأنينة علي أرزاقهم، وهكذا هي دائما مصر تفتح أحضانها للجميع وتنصهر فيها الفروق والحساسيات القبلية والقطرية. وتبقي لي ملاحظة واحدة علي هذه "الظاهرة" الجديرة بالاهتمام ظاهرة التونسيين من المهاجرين القدامي إلي مصر، وهو أنهم مازالوا يعاملون من وزارة التربية والتعليم، علي أساس أنهم وافدون، وبالتالي فأنهم يضطرون إلي دفع مصاريف المدارس والجامعات كأنهم أجانب. وقد تابعت مشكلة التعليم لدي هذه الجالية علي امتداد عقود، حيث انها بند دائم علي أجندة اللجان العليا المشتركة بين البلدين، ويتخذ بها الوزراء والخبراء توصيات وقرارات ولا أدري لماذا لا تفعل حتي الآن؟!