الصعيد "الجواني" مظلوم ظلم الحسن والحسين، ومحروم من الحقوق الأساسية والخدمات الضرورية. وهذه الحقيقة أكدتها التقارير المتتالية للتنمية البشرية في مصر التي لاحظت افتقار الأداء التنموي إلي التوزيع العادل جغرافيا. وفي إطار هذا الاختلال الهيكلي كان من نصيب صعيد مصر حصول خمس من محافظاته علي لقب أسوأ المحافظات من حيث الأداء التنموي، أي بصيغة أخري أنها "أفقر" المحافظات، وهي الفيوم والمنيا وأسيوط وسوهاج وبني سويف. وهذا الوضع البائس جاء نتيجة إهمال متعدد الجوانب، من بينه الإهمال الإعلامي بطبيعة الحال، حيث تتركز أضواء الإعلام علي القاهرة في الأغلب الأعم، بينما تسقط الأقاليم في بئر النسيان. ومن هنا.. رحبت بالمشاركة في الاحتفالات التي أقامتها محافظة أسيوط مؤخرا بعيدها القومي، وهي مشاركة شجعني عليها الزميل والصديق الصعيدي أبو العباس محمد، الذي أطلق مؤخرا مبادرة مهمة لحث الصحفيين والفنانين والأدباء علي زيارة "جنوب" مصر، والإسهام في نشر الثقافة الرفيعة في ربوعه، وذلك في إطار ما أسماه "جماعة الهجرة إلي الجنوب"، التي بدأت أنشطتها الشهر الماضي بنقل إبداعات "ساقية الصاوي" إلي محافظة قنا تحت رعاية محافظها الممتاز مجدي أيوب. أما عن أسيوط، فإن الأمانة تقتضي مني أن أبدأ بالاعتراف، والاعتذار، بأن هذه ثاني زيارة أقوم بها إلي هذه المحافظة التي كانت في الأيام الخوالي مركزا حضاريا مهما، حيث يبدأ دورها في تاريخ مصر منذ العهد الفرعوني عندما انضمت إلي طيبة، عاصمة البلاد، في نضالها ضد الهكسوس وطردهم من البلاد. وتعاظم هذا الدور بعد دخول المسيحية إلي مصر واضطهاد الرومان للمسيحيين وبعد الفتح الإسلامي زارها الرحالة الشهير ابن بطوطة، وقال عنها "هي مدينة رفيعة وأسواقها بديعة". لكن عجلة الزمن دارت، وجارت، علي هذه المدينة "الرفيعة" حتي أصبحت من أفقر المحافظات. ولم يكن غريباً، والحال كذلك، أن تكون بؤرة لتفريغ وتصدير الإرهاب المتستر وراء رايات دينية، وأن تكون أيضاً بيئة صديقة للتعصب وإنارة النعرات الطائفية التي تهدد وحدة الوطن والأمة. وأنا شخصياً لم أكن من المتحمسين لتولي اللواء نبيل العزبي منصب المحافظ في محافظة بهذه الظروف، لأن معني هذا الاستمرار اعتماد الحل الأمني لمشكلات لها جذور بعيدة عن اختصاص الأمن. لكن الرجل خيب هذه الظنون، لأنه لم يتصرف كرجل أمن سابق، بل وضع شبكة متكاملة من السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمعالجة الأوضاع التعسة التي ظلت المحافظة ترزح تحت نيرانها عقوداً وسنوات طويلة، واستطاع في غضون سنتين ونصف السنة أن يغير كثيراً من الملامح القبيحة لهذه المحافظة والتي جار عليها الزمان. وليس معني هذا أن أسيوط أصبحت جنة، بل هي لاتزال بكل تأكيد محافظة فقيرة وتحتاج إلي الكثير والكثير من العمل الدءوب علي جميع المستويات، لكن عجلة هذا العمل المدروس بدأت بالفعل، ورغم بعد المسافة فإن مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. وأظن أن نبيل العزبي قطع هذه الخطوة بالفعل. وأظن أيضا أن نجاحه في نقل الأداء التنموي من حيز الأقوال إلي حيز الأفعال يرجع إلي عدد من العوامل، من بينها احترامه للمعارضة. فالمألوف، في مناسبة العيد القومي للمحافظة، أن يقوم المحافظة بتكريم عدد من الشخصيات نظراً للجهود التي بذلوها في تنمية المجتمع المحلي خلال الفترة السابقة. والمألوف أيضا أن تضم قائمة المكرمين عدداً يزيد أو يقل من البيروقراط والتكنوقراط.. وكلاء وزارة ومديرين، ووكلاء، وقيادات "شعبية" ينتمون في الأغلب الأعم إلي الحزب الوطني الحاكم. لكن غير المألوف أن يقوم السيد اللواء الوزير المحافظ بتكريم شخصية تنتمي إلي المعارضة. لكن هذا الأمر غير المألوف كان هو مفاجأة نبيل العزبي في الاحتفالات بالعيد القومي لمحافظة أسيوط، حيث ضمت قائمة المكرمين إسم الاستاذ جماد أسعد. وجمال أسعد لا يحتاج إلي تعريف، لأنه أحد أهم الشخصيات المعارضة سواء داخل مجلس الشعب أو علي صفحات المجلات والجرائد أو علي شاشات الفضائيات أو في المؤتمرات الشعبية والندوات وورش العمل الفكرية. وهو معارض نزيه ينأي بنفسه دائما عن النعرات الطائفية والمصالح الشخصية والحسابات الصغيرة وضيقة الأفق. وهو قبل ذلك كله يتميز عن معظم رموز المعارضة بأنه متواجد في قلب الصعيد، وملتصق بقاعدته الجماهيرية في القوصية، أي انه منغمس في الواقع وملتحم مع الشعب يعيش معاناة أهله الصعايدة ويحس آلامهم ويفهم أحلامهم وطموحاتهم. أي أنه ليس من فصيلة المعارضين الذين يسكنون الأبراج العاجية ويعارضون باسم أمة لا يعرفونها. وكل هذه عوامل أعطت جمال أسعد مصداقية عالية، ليس في محافظته أسيوط فقط، وانما علي صعيد المهتمين بالشأن العام في مصر كلها. وكانت لفتة رائعة من المحافظ نبيل العزبي أن يقوم بتكريم هذا الرجل، الذي يعد مثل سد مصر العالي في مواجهة المؤامرات الطائفية التي تستهدف البلاد، وأن يقول في حقه كلمات حب وتقدير يستحقها.. وأكثر. مثل هذا السلوك المتحضر والواعي من المحافظ نبيل العزبي.. هو سر تقدم الأمم وكل عام وأهلنا في أسيوط.. طيبون.