خمس سنوات مرت علي حكومة الدكتور أحمد نظيف فهل هذه المدة كافية لتقييم هذه التجربة، بسلبياتها وإيجابياتها؟ كل الخبراء والسياسيين، حتي أولئك الذين كانوا ينادون في وقت سابق بضرورة الإنتظار وإعطاء المجموعة الوزارية فرصتها للعمل، أجمعوا إن الفترة الماضية كانت كافية للحكم علي أداء الحكومة. وهذا التقييم الذي حاولنا أن نقدمه علي صفحات العدد "الأسبوعي" ليس من باب، تصيد الأخطاء أو الرغبة في النقد، أو "كره" لا سامح الله للدكتور نظيف، أو مجموعته الوزارية.. فنحن كجريدة إقتصادية بالدرجة الأولي، أول من ساندنا حكومة رجال الأعمال، وكنا نتمني أن يكون رهاننا علي "الحصان الرابح" لذلك كان لابد من وقفة، أقرب إلي تلك الوقفات مع النفس، لفحص الإنجازات وتعظيمها، وتحديد مواطن النقص لزيادة العمل فيها. والتقييم كما ندعيه بعيد عن المشاعر والعواطف ويحاول أن يلامس الموضوعية ويبتعد عن "تشخيص" الأزمات، ولا فرق هنا بين "زيد" أو "عبيد" إلا بما حققوا من نتائج. ولعل أبرز ملاحظة علي إمتداد صفحات التقييم الذي بين أيديكم - وهو الموشر الحقيقي لقياس الجهود المبذولة علي جميع الأصعدة طيلة خمس سنوات هي عمر الحكومة - هو مردود تلك الجهود علي حياة الناس من أجل الإرتقاء بهم إنسانيا وحضاريا. وقد أجمعت غالبية الآراء التي استطلعناها، وبينها العديد ممن ينتمون للحزب الوطني الحاكم، أن ثمار الإصلاحات الاقتصادية والسياسية لم يشعر بها البسطاء، وهم الغالبية. وقد قالت الحكومة الكثير والكثير من التبريرات في السابق لتمرير قوانين أو قرارات، تدرك أنها علي حساب الغلابة في هذا الوطن، وكانت الوعود كبيرة بأن ينتظر المواطنون بعض الوقت حتي يتمتعوا بثمار الإصلاح طول الوقت، لكن الناس انتظروا طويلاً، ولم يجنوا شيئا! وهذا ليس كلاماً مرسلاً، وإنما يستند علي أرقام وإحصاءات، فتقرير التنمية البشرية الأخير، والذي صدر بالتعاون بين معهد التخطيط القومي، وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي، والذي يعد استكمالاً لتقرير عام 2005 حول العقد الاجتماعي الجديد، أكد علي حقيقة "مُرّة" وهي إن الأداء التنموي يفتقر إلي التوزيع الجغرافي العادل بين المحافظات، فالمحافظات الأعلي حظا في تحقيق التنمية هي تلك الحضرية وطبعا العاصمة، بينما ظلت المحافظات الأقل حظا في التنمية بالصعيد، وتتصدر خمس محافظات صعيدية الترتيب الأخير في معدلات التنمية وهي الفيوم، المنيا، أسيوط، سوهاج، وبني سويف. فالفقر مازال متركزا بشكل كبير في الصعيد، فبينما يمثل هذا الإقليم 25% من اجمالي سكان مصر، كان نصيبه من نسبة السكان الأشد فقراً هي نحو 66%، إضافة إلي أن 95% من القري الأشد فقراً تقع في الصعيد. ومن ضمن الألف قرية الأشد فقراً التي حددتها الحكومة، نجد 762 قرية تقع في سوهاجوالمنياوأسيوط، وهناك 59 قرية من بين ال 100 التي تعاني فقراً مدقعاً تقع في محافظة واحدة هي سوهاج. وباعتراف الأجهزة الحكومية ومؤسسات إحصائها، فإن أكثر من 19% من الشعب المصري، يقع تحت خط الفقر. وعلي فكرة، يا سادة، "تحت خط الفقر" وفقاً للمؤشرات العالمية، هو كل شخص لا يملك دولاراً واحدا يوميا. ويدق تقرير التنمية البشرية ناقوس الخطر أمام ظاهرة أخري متزايدة تهدد جهود التنمية وهي اتساع المناطق العشوائية داخل المدن، بل إن التقرير يشير إلي أن القاهرة نفسها مهددة بزيادة معدلات الفقر فيها، من 6.4% حاليا إلي 6.7% بحلول ،2015 نتيجة ظهور المزيد من المناطق العشوائية بها. ونحن نعرف أن العشوائيات في اتساع، بسبب ارتفاع معدلات النزوح، من المحافظات المجاورة، وخاصة من الصعيد فالمناطق المختلفة أصبحت طاردة للسكان في اتجاه العاصمة، بحثا عن فرص عمل ونتيجة تقصير الحكومة في تنمية المناطق الريفية والقري. ولعل أخطر المؤشرات التي ترصدها التقارير الصادرة في الفترة الأخيرة، بما في ذلك تقارير الحكومة، تلك الخاصة بوضع التعليم، فهناك حوالي 15% من أطفال مصر بين سن السادسة والخامسة عشر لم يلتحقوا بالتعليم الأساسي أو تسربوا منه. والكارثة الحقيقية هي عندما نعي أسباب ذلك: فالناس يتجهون إلي إلحاق أبنائهم في هذه السن الصغيرة بسوق العمل نتيجة ازدياد معدلات الفقر، واتساع المناطق العشوائية داخل المدن. وازاء هذه الصورة فإننا ندعو الحكومة، إلي مراجعة مسئولياتها فمن غير المقبول ونحن في القرن الحادي والعشرين، وفي دولة كانت رائدة في منطقتها أن يعاني المواطن من توفير رغيف الخبز، وان تعود طوابير العيش إلي الظهور خلال الفترة الماضية، بل وأن يموت أشخاص بسبب التدافع للحصول علي الخبز.. ومهما قالت الحكومة وفسرت ذلك بالأزمة العالمية في الغذاء، فإنها تبقي مجرد تبريرات لا يمكن ان يتقبلها عاقل، بل إن رئيس الجمهورية بنفسه رفض هذا الواقع المرير، كما أنه من غير المقبول أن يظل التعليم علي هذه الصورة السلبية. واذا كانت الحكومة تنادي بتحقيق مشاركة مع القطاع الخاص والمجتمع المدني من أجل أداء أفضل للتنمية البشرية، فإن عليها هي أولا، مسئولية تحديد آليات هذه المشاركة حتي تكون فاعلة وناجعة، والملاحظ ان منظمات المجتمع المدني نفسها وقعت في نفس "خطيئة" الحكومة، فالإحصائيات المنشورة تبين أن العاصمة والمدن الكبري "الإسكندرية، الجيزة، الشرقية" هي الأوفر حظاً في عدد الجمعيات الأهلية، فالصعيد مثلا الذي يشتمل علي أفقر ألف قرية في مصر، نصيبه من الجمعيات ضئيل جدا، ليس أفضل من نصيبه من الخدمات الحكومية والمرافق ومن الاستثمارات ومن الدخل القومي. وبعد هذا التقييم وهذا التعليق، تبقي كلمة: لو هناك إحساس وطني صادق لدي الحكومة بضرورة المضي في الإصلاح، وأن تذهب ثمار التنمية "ليتذوقها" البسطاء الفقراء في هذا الوطن ونسبتهم وفقاً لإحصاءات الحكومة 5.19% - حتي لو استبعدنا النسبة التي حددها تقرير البنك الدولي ب 40% - وإنطلاقا من مبدأ رئيسي وهو أن مساعدة الفقراء هو في جوهر حقوق المواطنة، وليس من مبدأ البر والإحسان، وبالتالي فإن مسئولية الحكومة رئيسية وكاملة.. وان عليها أولا إحداث تغيير جوهري علي سياساتها، وان تنتقل قلبا وقالبا إلي الصعيد وأن تتخذ من مركز عملها "سوهاج"، وهي الأكثر فقراً، لتكون العاصمة الجديدة ويمكن لهذه الخطوة الجريئة أن تسرع الجهود التنموية لمصر بكاملها وبشكل جذري. فهل تستطيع ذلك.. أم أن عمر الحكومة يتجه إلي النهاية ولسان حالها يقول "إني راحلة" في حين أن المزيد من الانتظار هو قدر "الغلابة"؟!