لا أعرف من أي منبع يختار أحمد محمود شيخ المترجمين الشباب تلك النوعية من الكتب التي تبقر بطن الواقع محاولة استكشاف المستقبل. ولابد أن طاقة الخيال عند الرائع جابر عصفور قادرة علي استيعاب حق القارئ العربي في أن يتعرف كيف يفكر الناس فيما هو قادم من السنوات. أكتب ذلك وأنا أسبح بين أشواك سطور كتاب "قاموس التنمية.. دليل إلي المعرفة باعتبارها قوة" وهو كتاب ضخم يصعب تلخيصه في سطور، لكني أثق أن كل رجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة مطالبون بالتواضع وتخصيص وقت لهذا العمل الموسوعي الناتج من عدة عقول قادرة علي الابحار في التاريخ لترصد مأساة الشعوب الواقعة تحت خط عرض البحر المتوسط، سواء أكانت تلك الشعوب التي تعيش في آسيا وإفريقيا أو أمريكا اللاتينية. وقام بتحرير الكتاب عقل نابض هو عقل فولفاجانج ساكس أحد نجوم حركة الخضر الألمانية، وهو من يعطي وقته وعمره لصيانة الكرة الأرضية مما يلحقها من فساد بفعل مشاريع التقدم التكنولوجي التي تسرق النقاء من كوكب الأرض. وهو من أشرف علي إخراج هذا الكتاب في عام 1992 ولكنه لم يصلنا إلا بعد ستة عشر عاما من صدوره عن طريق المركز القومي للترجمة، علي الرغم من أهمية كل فكرة فيه. ويتركز جوهر الكتاب علي رفض أساليب الحلول الكاذبة التي تلمع في العقول المسئولة عن السياسة والاقتصاد العالمي، فينبهنا الكتاب إلي أن أول من قام بتقسيم العالم إلي فسطاطين لم يكن أسامة بن لادن، بل سبقه في ذلك الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي حكم الولاياتالمتحدة في نهايات الحرب العالمية الثانية، وساهم في صياغة أوضاع سياسية عالمية تؤهل الولاياتالمتحدة للوضع الامبراطوري، وهو أول من قال في عام 1949 أن الكون ينقسم إلي مجموعتين من الدول، أي فسطاطين بلغة بن لادن، الفسطاط الأول هو فسطاط التقدم وهو يضم دول أوروبا وبعضا من دول آسيا مثل الاتحاد السوفيتي واليابان، أما بقية الكون فهم دول متخلفة، وعلي المتقدمين أن يساعدوا المتخلفين علي اللحاق بهم. وللأسف الشديد جاءت الحقيقة واضحة من مجمل النظر إلي السنوات التي جاءت بعد عام 1949 وحتي الآن، فهي سنوات شهدت إصرار الغرب وبعض من دول الشرق علي احتكار التقدم، وعدم الاعتراف بأحقية الشعوب الفقيرة في قبول حياتها وتطويرها بما يضمن لهم الحياة المقبولة، بل قام الغرب والشرق بتصدير نمط الحياة الاجتماعية كما يرغب فيها الغرب ممثلا في الولاياتالمتحدة، حيث يسيطر الحلم الأمريكي علي كل فقراء الكون، وحيث صدر الاتحاد السوفيتي فكرة العدل في تقبل القهر. ولم يتوقف كل من المعسكرين - الشرق والغرب - عن بيع الوهم لبقية الدول. وكانت النتيجة هي حالة المسخ التنموي المنتشر في الكون. إن قراءة هذا الكتاب - وأنا مازلت سابحا بين سطوره - يحتاج إلي تواضع من انصار الرقي عبر تدريب الشعوب علي إنتاج احتياجاتها بأساليبها دون أن تغرق في أكذوبة العولمة التي دهست الكون، ويحاول الكون أن يفيق منه حاليا.