ما إن بدأت في قراءة الجملة الأولي في هذا الكتاب حتي همست لنفسي: سوف أكتب عنه تحت عنوان «تاريخ حياة إنسان محترم»، وما إن وصلت إلي الجملة الأخيرة حتي تأكد يقيني بأن هناك دائرة غير مرئية لها حروف من أمواس حادة، سار عليها اثنان هما جابر عصفور وكاتب هذه السطور، ولم يهتم أي منهما بالجراح التي تصيب بطن القدم لتنزف الروح من بعدها بآهات يخطئ من يراها علي الشفاة فيظنها ابتسامات علي الرغم من أنها ليست كذلك، ولكنها ظروف الزمان الذي عشناه. أتحدث عن كتاب جابر عصفور الأخير الذي أخذ ملامح المذكرات الشخصية واقترب كثيرا من أدب الاعتراف، ولولا امتزاج العام بالخاص فيه لما عرفنا تاريخ إنسان رأي في سماء أفكاره ما يسميه علماء الطب النفسي «النبوءة الذاتية»، وكان فارسا الهداية إلي تلك النبوءة إلي المستقبل هما والده هذا العاشق الحميم للحياة، وطه حسين الذي انطلق إلي إهداء كل من جاءوا بعده من أجيال كيفية نقاء البصيرة التي تغلب في قدرتها هذا العمي الذي فرضته عليه قسوة الفقر والجهل، وأضاء أفكارنا جميعا بالقدرة علي التفكير بالعلم والمشاعر كي نكون بشرا جديرين بالحياة. •• أعلم أن تاريخ ميلادي يسبق تاريخ ميلاد جابر عصفور بخمس سنوات وثلاثة أشهر وعشرة أيام، ولكني منذ أن قرأت له نقدا لرواية أثيرة لها موسيقي من حنان جارف في قلبي وهي رواية أستاذي فتحي غانم «تلك الأيام»، منذ ذلك التاريخ صار من الصعب أن أقرأ عملا أدبيا إلا وأتمني أن يكون جابر عصفور قد قرأه قبلي. والسبب في ذلك أنه لم ينظر إلي الرواية من فوق سلم الترفع المزيف، بل حول مواقفها إلي أمواج بحر شديدة الخصوصية، وراح يرتب تلك الأمواج ليصفو الذهن وهو يستقبلها كأنها أمواج شاطئ لبحر هادئ يمكن أن نغسل بتلك الأمواج خطايا أي زمن قادم لنتعرف علي كيفية السباحة في لحظات المستقبل دون خلل أو توجس مريب. وعلي الرغم من أني أدعي لنفسي أني أعرف د.جابر عصفور عن قرب، صداقة مع نجم شديد الارتفاع يرسل ضوءا يمكنك أن تري من خلاله باطن الأشياء بشرط أن تتسلح بإنسانية الحنان الفياض. •• كان الطفل جابر عصفور يسمع من والده الحلم بأن يكون مثل طه حسين، وما إن يلتحق جابر بالدراسة حتي يعلم أنه لا مفر من التفوق كي يواصل الطريق الذي يلتقي فيه لا بإبداعات ومناهج طه حسين الشاسعة في تاريخنا فقط ولكن ليجلس علي نفس الكرسي الذي جلس عليه طه حسين كرئيس لقسم اللغة العربية بآداب القاهرة. وهو لم يحدث إلا بإصرار جسيم حيث كان هذا هو الطريق إلي المكانة التي تليق بعقل مثل عقله إلي الدرجة التي جعلته وهو مراهق يقترب من اكتشاف كنه رجولته بين أحضان مطلقة صغيرة في الشقة التي تقع أسفل شقة العائلة في المحلة الكبري، ولكنه يبتعد سريعا مقررا الصوم عن مواصلة اكشاف آفاق الجسد الأنثوي وحقائق العناق المكتمل، وكأنه أبي المدعو منير حسين عامر ابن قرية أنشاص الذي أيقن أن حياته توجزها كلمة واحدة هي «الواجب» تلك الكلمة التي قرأتها عشرات المرات علي دولاب ملابسه في القرية، فلم يكن أمام أبي سوي التفوق خشية أن يحرمه والده من إكمال رحلة التعليم، هذا الوالد الذي أصابه جنون عشق النساء لأنه لم ينجب سوي اثنين أبي وعمتي، بينما أنجب إخوته وأبناء عمومته عشرات الأولاد من بنين وبنات، وراح الجد يتزوج «عمال علي بطال». ويصرف كل قرش يأتيه علي الجواري، ويرفع في وجه ابنه سيفا اسمه ضرورة ترك التعليم من أجل رعاية الأرض، فمصاريف التعليم لا داعي لها خصوصا أن من يتلقي العلم سيصل إلي مرتبة العمودية بالقرية إن آجلا أو عاجلا. ويضطر الأب - أبي - أن يتخذ نفس طريق جابر عصفور، وهو التفوق الدراسي المذهل الذي يضمن له أن يكون الأول علي المدرسة الإلهامية، ثم الأول بين طلبة مدرسة المعلمين العليا، ليتخرج فلا يجد عملا لأن نظره ضعيف للغاية والحكومة لن تعين شابا متفوقا يحتاج إلي نظارة طبية سميكة، فيبذل جهدا هائلا لمجرد الحصول علي عمل. وكانت رحلة أبي هي معاناة من فقر العقول التي لاتعرف قيمة العلم، ولولا حصول أبي علي شهادة المعلمين العليا لم يكن لواحد مثلي أن يتعلم أنا وإخوتي. وتتكرر التجربة مرة أخري مع شخص آخر وفي زمن آخر وفي ظروف شديدة الاختلاف، فقد كان علي جابر عصفور أن يبذل من الجهد في الدراسة ما يجعله قمة التفوق، وليكون الطالب الذي يعرف كيف يهضم العلوم ويستوعبها ويرتقي فيها وبها، ويقضي فترة تعليمه الجامعي ممتلكا ناصية المركز الأول التي تكفل له منحة تفوق، بعد أن حقق له جمال عبدالناصر حق التعليم العالي المجاني مثله في ذلك مثل جميع المصريين. جمال عبدالناصر هذا الذي انبهر به جابر عصفور إلي الدرجة التي جلس فيها ذات مساء في حجرة لا تليق بجوهر إنساني مثل جوهره، ليكتب رسالة لجمال عبدالناصر قائلا فيها: تتحدث كثيرا عن العدل، بينما المجتمع الذي تحكمه لا عدل فيه، فكيف لمتفوق نال المركز الأول علي كل أقسام اللغة العربية بجامعات مصر ألا يصبح معيدا؟ وكان تأجيل قرار تعيينه كمعيد بقسم اللغة العربية قد حدث بسبب خلافات أساتذة القسم، ولذلك بحث عن عمل، وكلما تقدم لوظيفة وشاهد المسئولون مجموع درجاته البارعة قفز إلي أذهانهم التساؤل «كيف لا يجد هذا الشاب مكانا له في الجامعة؟ لابد أنه شيوعي أو من الإخوان المسلمين، فليس من المعقول ألا يتم تعيينه بالجامعة إلا لواحد من الأمرين». ولذلك تتهرب كل الجهات التي تقدم للعمل بها من منحه فرصة العمل. وعندما يكتب لجمال عبدالناصر تلك الرسالة، تنقلب الجامعة بأكملها. وترسل له أستاذته سهير القلماوي من يستدعيه، فيذهب إليها ليجد رئيس الجامعة في استقباله مرحبا به. ويبلغه قرار تعيينه بالجامعة. ورئيس الجامعة هذا هو من حاول جابر عصفور الوصول إليه من قبل فلم يستطع نتيجة برود وصد سكرتاريته. وحين يذهب لكتابة إقرار استلام العمل، يفاجئه أمين الجامعة بالقول «أنت الشاب الذي قلبت علي رءوسنا الدنيا»، ويخرج أمين الجامعة الخطاب الذي كتبه جابر إلي جمال عبدالناصر، وعليه تأشيرة الزعيم لوزير التعليم العالي «يتم تعيين الشاب وإفادتي بأسباب تأجيل تعيينه»، فتنقلب الدنيا علي رأس الجميع، ويصدر قرار التعيين ليتم إنقاذ مستقبل جابر عصفور من ترهل التواجد كمدرس بقرية نائية بالفيوم يتحكم فيها مفتش لغة عربية مرتش من خريجي دار العلوم، يكره خريجي كلية الآداب كراهية التحريم. •• وما فعله جمال عبدالناصر مع جابر عصفور فعله معي أيضا بشكل مختلف، فقد كنت علي موعد مع شعراوي جمعة الذي كان محافظا للسويس، وكان مكان اللقاء مجلس قيادة الثورة، وكنت قد دخلت المبني دون إجراءات أمنية تذكر إلا عندما صرخ أحدهم «سيادة الرئيس»، وقام واحد من الحرس بركني علي حائط الممر المؤدي إلي المكاتب ليدخل جمال عبدالناصر، فتدور عيونه بالمكان وكأنها أشعة رادار، ويتجه إلي حيث أقف ويمد لي يده قائلا: جمال عبد الناصر «فأقول مبتسما» عارف يا ريس أنا منير عامر وأفاجأ بأنه يتذكر أبي حيث كنا نسكن في منزل ملاصق لمنزل والده الحاج عبدالناصر حسين خليل سلطان. ويسألني عن أحوال الأسرة ويندهش لأن والدي الذي عمل بالدولة أربعة وعشرين عاما ثم مات لا يوجد معاش له حسب قانون أصدره إسماعيل صدقي باشا، فيأمر سكرتيره محمود الجيار أن يأخذ عنوان أسرتي، وأفاجأ بتقرير معاش لوالدتي وشقيقتي التي مازالت بالتعليم، بأثر رجعي لا تستفيد منه أمي وحدها ولكن كل أسرة مرت بنفس الظروف، فلم يكن معاشا استثنائيا بل حق طبيعي لكل موظف مات قبل أن يكمل الخمسة وعشرين عاما في العمل الحكومي. •• والعرفان بالجميل هو سمة أساسية في حياة جابر عصفور، فحين تقرأ عن أستاذه عبدالعزيز الأهواني الذي جعل من تلاميذه أبناء له، وكيف يلتقي به فجأة في يوم مكفهر، يوم وفاة والد الدكتور جابر فجأة بمستشفي قصر العيني، فيصحبه د.الأهواني معه في السيارة ليتولي عنه كل إجراءت هذا الأمر العصيب والشاق، ويدعو الأستاذ تلميذه لمناقشة الموت فلسفيا بدلا من أن يأكله الحزن علي الأب الحنون والصديق. وعندما يحاول جابر عصفور أن يرد الدين، يكفهر في وجهه د.عبدالعزيز الأهواني متسائلا «أكنت ترد نقودا أعطاها لك والدك ؟». •• التفاصيل الثرية في حياة جابر عصفور تجعلك تري رأي العين كيف يعيش الإنسان شريف الروح بألا يدع من يأتي من بعده يعاني مثل معاناته، فهو الرحيم الرءوم بأصدقائه. وهو في نفس الوقت القارئ المتهمل لكل التيارات السياسية التي كانت تموج في مصر المحروسة، وهو الذي رأي جمود الإخوان المسلمين يسلبهم النضارة والقدرة علي الحركة المنطلقة، وهو نفس جمود الماركسيين الذين افتقد بعضهم قدرة التفكير خارج إطار النظرية الماركسية. وكراهية الجمود هي التي جعلت قلب جابر خاشعا بإيمان هائل لمعني العدل ولجوهر الهداية إلي الكرامة البشرية. •• كانت آداب القاهرة أيام تلمذة جابر عصفور هي جامعة دول عربية مصغرة تضم كل الجنسيات، وقد جمعتهم القومية العربية التي رفعها عبد الناصر شعارا لمصر. ومازال إيمان جابر بالقومية العربية يفوق الوصف، فهو واحد من قادة تجميع المثقفين العرب، بعد أن أعاد هيكلة المجلس الأعلي للثقافة عبر خمسة عشر عاما من العمل كأمين لهذا المجلس، وهو من أكمل مسيرة طه حسين، عندما بدأ المشروع القومي للترجمة الذي وصلت عدد الكتب المترجمة فيه إلي ما يقرب من ألفي كتاب من لغات العالم، وبعقول مصرية وعربية تجعل من الكتاب المترجم جسر تواصل بين حضارات الكون. •• وعلي الرغم من أن د.جابر قد أهداني نسخة من كتابه إلا أني أرسلت له في طلب ثلاث نسخ لأبنائي وأحفادي لأقول لهم «هناك صديق عظيم لي هو جابر عصفور، وهذا إيمانه بأن العالم جدير بأن نعيد ترتيبه ليكون صالحا لمن يأتي من بعدنا وعندما أعلنت ذلك لحفيدي قال لي «هل هو ذلك الأستاذ الذي لم تكن تنام الليل أيام إصابته بأزمة قلبية؟». أجبت الحفيد «نعم هو الأستاذ الذي كنت أدفع عنه الخطر لأني أحبه كنفسي ولذلك أحفظ قيمة الصحبة، فأنت لا تعلم يا حفيدي العزيز أن جابر عصفور هو واحد من كوكبة ما إن تري قوي التخلف وهي تنزع خريطة مصر من موقعها بالكرة الأرضية لتكرمشها تمهيدا لإلقائها خارج التاريخ حتي تتحرك تلك الكوكبة لتعيد خريطة مصر مكانها وتفردها بالعمل الجاد، مثله في ذلك مثل صلاح عبدالصبور وأحمد بهاء الدين وفتحي غانم وجمال حمدان، يكفي أنه أهدانا أكثر من ألف وخمسمائة كتاب رصين مترجم من ثقافات الكون لنشرب من أنهار العقول ما يمكن أن نصلح به أحوالنا». •• في صفحات تلك الملامح من السيرة الذاتية قد نقع في خطأ الظن بأن هناك تعارضا بين جوهر العقل وجوهر القلب، ولكن القارئ المدقق الحساس سيكتشف حقيقة العقل حين يفكر بموسيقي القلب، ويتلمس من دقات القلب عزفا مرحبا بموسيقي التفكير المتوازن أو المطل علي المستقبل بثقة نادرة في زماننا.