قليلون في أمريكا هم الذين سيتذكرون عام 2008 بالخير ففي هذا العام ضربت البورصات، ونزفت الميزانيات الحكومية مليارات الدولارات من أجل انقاذ البنوك المنهارة وفقد الآلاف أعمالهم أو منازلهم أو الاثنين معا ووسط هذا الجو الكئيب لم يكن هناك ما نحتفل به مع نهاية العام سوي شيء واحد هو أن المواطن الأمريكي صار في مقدوره أن يشتري بنزين سيارته بسعر أرخص نتيجة للتراجع الشديد في أسعار البترول. وتقول مجلة "تايم" إن البترول الذي حقق ارتفاعات قياسية بلغ 147 دولاراً للبرميل في يوليو الماضي انهارت أسعاره إلي أدني مستوي لها منذ عام 2004 وفي يوم 7 يناير 2009 كان سعر برميل البترول تسليم شهر فبراير لا يتجاوز 43 دولارا أي أقل من نصف ما كان عليه منذ عام واحد وتوقع خبراء بنك الاستثمار الأمريكي جولدمان ساكس في ديسمبر الماضي أن يهبط سعر البرميل في مارس القادم إلي 30 دولارا فقط ولاشك أن انخفاض أسعارالبنزين يمثل بالنسبة لملاك السيارات وشركات الطيران وأي شخص يستخدم هذا الوقود بكميات كبيرة فرصة لالتقاط الانفاس وهي فرصة يحتاجها الجميع في ظل الركود الاقتصادي الراهن. ولكن هناك علي الجانب الآخر من لا يرحب بعودة عصر البترول الرخيص فالبلدان المنتجة للبترول التي جمعت مليارات الدولارات خلال السنوات القليلة الماضية بدأت الآن تعيد النظر في حساباتها. والحكومات التي لم تدخر من تلك الثروة التي هبطت عليها أو تلك التي بنت موازناتها المستقبلية علي أساس استمرار الارتفاع الكبير في أسعار البترول أو الحكومات غير القليلة التي ارتكبت الخطأين معا صارت الآن في مأزق بعد الهبوط الشديد في ايرادتها البترولية ويجدر بنا أن نقول إن انخفاض أسعار البترول بالنسبة لدول مثل ايران ونيجيريا وروسيا وفنزويلا من المرجح أن يجعلها تواجه العام الحالي 2009 نوعا من الاضطراب السياسي وتخفيضات كثيفة في الانفاق العام وزيادة صاروخية في معدلات التضخم والبطالة ولاشك أن قوة وسرعة الانخفاض في أسعار البترول كانت صدمة هائلة اقتصاديا وسياسيا بالنسبة لبعض هذه الدول وهو ما يؤكده ديدييه حسين مدير أسواق الطاقة والأمن في وكالة الطاقة الدولية بباريس وقد بدأت الأزمة أخيرا تضرب رابع أكبر منتج للبترول في العالم وهي إيران فانخفاض أسعار البترول أفقد إيران 85% من مواردها بالنقد الأجنبي وهي الموارد الناجمة عن قيامها بتصدير 3.8 مليون برميل بترول يوميا وفي الصيف الماضي كانت إيران تجني 300 مليون دولار شهريا من صادراتها من البترول والغاز ولكن سعيد ليلاز الصحفي الاقتصادي الايراني يري أنها لن تستطيع أن تدخر في يناير الحالي سوي 100 مليون دولار فقط. ويلقي كثيرون من أبناء الشعب الايراني البالغ تعداده 65 مليون نسمة بمسئولية هذا التراجع في العائدات النفطية علي شخص واحد فقط هو الرئيس أحمدي نجاد ففي عهده اشتدت وطأة العقوبات الدولية علي ايران وهو ما جعل هذا البلد يزيد من اعتماده علي عائدات البترول زيادة غير عادية ويري خبراء الطاقة والمحللون الاقتصاديون أن الرئيس الايراني انفق مليارات الدولارات من الصندوق القومي الخاص بموازنة تقلبات أسعار البترول وهو الصندوق الذي من المفترض أن يكون شبكة أمان للشعب الايراني عندما تهبط أسعار البترول وقد استخدم نجاد هذه المليارات في تحويل برامج الدعم الاجتماعي للملايين من أنصاره ومعظمهم من الفقراء ومكنه من ذلك عدم وجود رقابة محاسبية كافية علي أموال هذا الصندوق. وتقول مجلة "تايم" إن عجز الموازنة الايرانية حقق ارتفاعا شديدا وأن معدل التضخم بلغ 25% سنويا وهو ما يؤكده كليف كوبتشان خبير شركة استشارات المخاطر "يوراسيا جروب" بواشنطن ويقول الرجل إن المسئولين الايرانيين يعمقون الحفرة التي وقعت فيها بلادهم بانفاق أموال لا يملكونها ولعلنا نذكر أن 60 اقتصاديا ايرانيا قد بعثوا برسالة في نوفمبر الماضي إلي الرئيس أحمدي نجاد يحذرونه فيها من أن سياساته تهدد ايران بالافلاس الاقتصادي ويقول ليلاز إن إيران لم تعد تملك أية احتياطيات لأن الرئيس نجاد انفق كل شيء ورغم أن ليلاز لم يشترك في توقيع الرسالة الرئاسية سالفة الذكر إلا أنه من أشرس المنتقدين للرئيس نجاد ويقول الرجل إن السياسة الاقتصادية للرئيس الايراني تفتقر إلي أي قدر من الرشاد المالي كما أن أولوياته تجعل الناس يشبعون اليوم ولايدخرون أية نقود للمستقبل. وتجدر الاشارة إلي أن الرئيس أحمدي نجاد قد اضطر بعد شهور من الممانعة إلي أن يعترف للناس بأن المشكلات الاقتصادية أجبرته علي اعادة النظر في الموازنة الحكومية واضعاً في اعتباره أن سعر برميل البترول قد يهبط إلي ما بين 30 و35 دولارا للبرميل بعد أن كان حساب الموازنة قد وضع في اعتباره أن سعر البرميل لن يقل عن 60 دولاراً ويخطط نجاد حاليا لاعادة النظر في أسعار الكهرباء والبنزين بالنسبة للمستهلكين من أبناء شعبه حيث إنها تعد من أرخص الاسعار في العالم ولاشك أن خطوة كهذه لن تكون في صالح رجل يستعد لخوض انتخابات رئاسية جديدة في يونيو القادم ويعلق ليلاز علي هذا الوضع قائلا إن نجاد ينفق الكثير لارضاء الناس حاليا وأن إيران عقب انتخابات الرئاسة مباشرة ستبدأ في مواجهة حقائق الانهيار الاقتصادي.