أصبح القيام بأي مشوار في القاهرة الكبري المزدحمة امرا يفوق الاحتمال، ويحتاج الي صبر يفوق صبر ايوب. وارتقت مهنة منادي السيارات حاليا لتفوق اي مهنة اخري، فالمنادي الان صار حاملا لمفاتيح السيارات الفخمة.. ومن المشاهد التقليدية ان تجد المنادي وهو يمشي تتأرجح بين اصابعه كمية من مفاتيح السيارات غير العادية، والتي يبلغ ثمن الواحدة منها عشرات الالوف من الجنيهات، ولن تجد بالقطع بين تلك المفاتيح واحدا لسيارة نصر 128 أو سيارة قديمة. وأصبحت نظرة المنادي للجنيه الذي يخرج من جيبك نظرة اشمئزاز، فهناك من يدفع خمسة جنيهات، وآهٍ ان كنت من الذين تنشر الصحف صورهم مع مقالاتهم مثل كاتب السطور، فلن تسلم من عيون المنادي وهي مندهشة لانك تركب سيارة فولفو موديل عام 1980 ومازالت تدب علي الارض، ويفسح لها الجميع بما فيهم الميكروباصات الطريق، فأغلب سيارات القرن الحادي والعشرين عمرها الافتراضي لا يزيد علي عشر سنوات، اما سيارات الربع الثالث من القرن العشرين فهي مختلفة تماما، فمادامت هناك قطع غيار فليست هناك مشكلة عويصة. وآه عندما تشتري سيارة من توكيل جديد، فهذه التوكيلات تتفنن في اهانة اصحاب السيارات الفارهة، ولابد ان تترك سيارتك عند باب التوكيل، ثم عليك ان تدبر امورك للعودة الي بيتك، فهم يعتبرون كل صاحب سيارة فاخرة انسانا يمكنه ان يستأجر سيارة اخري يقضي بها مشاويره اثناء تعطل سيارته. وطبعا لا يوجد في مصر مبدأ "الزبون علي حق".. فبعد ان تشتري السيارة وتوقع شيكات البنك، تكلفك الشركة التي تتولي الصيانة "الجلد والسقط" بمنطقة حي المدبح، فهم يعتبرون صاحب السيارة هو البيضة التي تحقق لهم ارباحا هائلة. وأتمني من الله ان يهب شركة فولفو علي سبيل المثال اعادة نظر في اسلوب الصيانة بها تماما، كما اتمني من بقية الشركات ان تحترم الزبون كما يحدث في الولاياتالمتحدة، حين تسلم سيارتك للتوكيل يعطيك التوكيل سيارة ثانية تقضي بها مشاويرك. ولكن الحياة في الولاياتالمتحدة رغم كل اعتراضنا علي سلوكها في منطقتنا، هي حياة تحترم المواطن بشكل يقترب من القداسة. ويصر كل بائع وكل صاحب عمل ان يرضيك فوق ما يتخيل اي انسان، ففي خدمة الزبون حركة لرأس المال، بينما في مصر فأنت سوف تدفع صاغرا ولسان الحال يقول: "مش كفاية بنخدمك وانت ما تستحقش". وأعود الي المنادي في الاماكن الهادئة الذي لا يقترب منك الا بعد ان تركن السيارة، وآهٍ لو كان بجانبك زوجتك او ابنتك، فالمنادي يحترف كلمات مثل باعة الفل علي الكورنيش قديما "ربنا يخلي لك الهانم". وحين تبدأ في التحرك من المكان الهادئ فالمنادي يحترف الدعاء لك، وكأنك تدفع له ثمن الدعاء. ورحم الله الكاتب فيليب جلاب الذي قال ان البعض يخطئ في فهم اعادة توزيع الدخل عن طريق مهن مثل منادي السيارات او كناسي الشوارع او باعة المناديل في الاشارات.