أول رجل إعلام عرفته في حياتي كان في سوق الخضار في دمياط في منتصف أربعينيات القرن الماضي، كان طويلاً ونحيلاً وصاحب صوت متميز وقوي وكأن الله ركب له حنجرة فيل، كان يمشي في السوق معلناً لأصحاب الدكاكين عن وصول أنواع الخضروات وذلك بعبارات قصيرة واضحة.. الطماطم يا دمايطة.. البطاطس يا دمايطة.. السبانخ يا دمايطة. بعدها يتوجه أصحاب المحلات إلي تجار الجملة فيحصلون منهم علي احتياجاتهم. هو بالطبع يعمل عند تجار الجملة ودوره بالتحديد هو إشاعة المعرفة بالخبر الذي ينتظره الناس وهو وصول الطماطم، لم يكن مطلوباً منه أن يمدح الطماطم ليغري الناس بشرائها، أو يشتمها معبئاً الناس ضدها لكي تبور في الأسواق. كان من الطبيعي أن يكون نجماً يعرفه كل رواد السوق، ولكن هل كان يشعر أنه صاحب رسالة؟.. لا أعتقد. إعلامي آخر تعرفت عليه في نفس الفترة الزمنية وهو المنادي علي الأطفال التائهين وكان مجال عمله هو كل شوارع المدينة وحواريها وأزقتها. يغيب الطفل عن بيته وعن حارته ويبحث عنه أهله فلا يعثرون عليه فيلجئون لأهل الاختصاص وهو المنادي المسئول الذي يمشي في كل أنحاء البلدة يصف ملامح الطفل وملابسه ويذكر عنوان أهله، هو إعلام في حالته البدائية كما تري غير أنه في جوهره يغذي احتياجاً فعلياً عند أهل المدينة، فبعمله تعود الطمأنينة لأهل الطفل الغائب، هناك دائماً شيء غائب أو حقيقة غائبة وعلي رجل الإعلام البحث عنها وتقديمها لبعث الطمأنينة في قلوب الناس، فهل كان ذلك المنادي القديم يشعر بأنه صاحب رسالة؟ لا أعتقد.. بالتأكيد كان يؤمن أنه يقوم بعمله فقط. من أخطر الأمور علي وجه الأرض أن يعتقد شخص ما أنه من أصحاب الرسالات، فقد مضي إلي الأبد عصر الرسالات وأصحاب الرسالات. وإذا كان المقصود بالكلمة هو أنها وظيفة تتسم بالأهمية القصوي، فدلني بربك علي مهنة أخري لا تتسم بالأهمية، هل عمل الإعلامي في الاستوديو أكثر خطورة من عمل الجراح في غرفة العمليات أو عمل الطيار في كابينة القيادة أو عمل سائق حافلة سياحية تحمل المئات أو حتي كهربائي سيارات. نحن جميعاً من أصحاب الحرف والمهن. وسكة السلامة في ممارسة أي مهنة هي أن يؤمن صاحبها بأن مهنته مهمة وتغذي احتياجاً خاصاً عند البشر. لقد اختفت عبارة شرف المهنة من قاموس البشر هذه الأيام لذلك كان لابد من ظهور حكاية الرسالة هذه التي تدل أول ما تدل علي انعدام التواضع. نحن نستمد أهميتنا من حرصنا علي اتقان مهنتنا وليس من اضفاء هالة من القداسة عليها. في الأنظمة الثورية فقط تظهر الرسالات وينتعش أصحاب الرسالات، فهناك عدو شرس، ربما يكون الإمبريالية أو البرجوازية أو الإقطاع، من المستحيل القضاء علي هذا العدو بمجرد ممارستك لمهنتك، لابد أن تكون من أصحاب الرسالات لكي تقضي عليه. هكذا ستسمع طوال الوقت أن المسرح رسالة وأن الفن رسالة وأن عضوية التنظيم السياسي رسالة وأن التدريس رسالة.. الخ الخ ليس مهماً عند أصحاب الرسالات أن يتقنوا عملهم، كما أن أحداً لن يحاسبهم علي أخطائهم، هل يعقل أن تحاسب صاحب رسالة علي خطأ بشري؟ الإعلامي نجم لا شك في ذلك غير أنه ليس بطلاً أو زعيماً سياسياً بحال من الأحوال ولا يجب ألا يكون، حرصاً علي هذه المهنة الجميلة وحماية لها من أن تلوثها أوحال السياسة. هو مراقب ثاقب البصر نزيه العقل محب للحياة ويريد لكل الناس أن تحبها وهو ما يتطلب قدرًا عالياً من النضج الإنساني.