1949 ، في الثالثة عشرة من عمري، حصلت علي الابتدائية، وظهرت لي فرصة العمر، أن ألتحق بمدرسة الصناعات الميكانيكية الحربية لأتخرج بعد سبعة أعوام صول (مساعد) ميكانيكي، سافرت من دمياط إلي القاهرة، كانت المدرسة في العباسية، بمعني أدق في صحراء العباسية فقد كانت صحراء بحق. هناك كشف طبي وكشف هيئة، نجحت في الأول ولم أكن خائفا من كشف الهيئة ففي ذلك الوقت كنت قد اكتسبت تلك الصفة اللعينة وهي الثقة الزائدة بالنفس والإحساس القوي بأن كل إنسان يحصل علي ما يستحقه طبقا لقدراته، كنت قد قرأت في ذلك الوقت كل الروايات المترجمة في سوق النشر، نعم كل الروايات، وهو ما ملأني بالإحساس أنني أعرف الكثير، ومرت أعوام طويلة قبل أن أدرك أنه لا يوجد علي الأرض من يعرف الكثير، عشت مع جدتي في حي الدراسة وتعرفت للمرة الأولي في حياتي علي دار الكتب فكان برنامجي اليومي هو الذهاب إليها في الفترتين الصباحية والمسائية، في كشف الهيئة أجبت بثبات وثقة عن كل ما وجه لي من أسئلة، وأعلنت النتيجة ونجحت ولكن... آه من «ولكن» هذه التي ستعترض حياتي كثيرا، ولكن هناك ستة أسماء احتياطي اسمي من بينهم، وقال لنا الأونباشي (العريف): نحن نحاول توفير أماكن لهم، ولكننا ننصحهم بسحب أوراقهم وتقديمها إلي المدرسة الثانوية خوفا من فوات الفرصة في حالة عدم التحاقهم بمدرسة الصناعات. رفضت سحب أوراقي، لم أفكر في هذا الاحتمال، لا أريد أن أعود إلي دمياط فاشلا، فالأبطال الذين قرأت عنهم لا يعرفون الهزيمة، الفرسان الثلاثة لا يعرفون الفشل، النبلاء المحاربون لا يعرفون الفشل. مرت أعوام طويلة قبل أن أتعلم أن النبلاء يعرفون الفشل أكثر من غيرهم (عرفت بعد ذلك بستين عاما أن الزميل إبراهيم أصلان كان تلميذا بالمدرسة) أعتقد أنها كانت المرة الأولي التي أجرب فيها ما يمكن أن أسميه الحزن العظيم، عدت إلي دمياط عند الفجر، لم أوقظ أحدا غير أنني كنت جائعا والخبز في دمياط جاف، حرصت علي ألا أصدر صوتا غير أن صوت تكسير الخبز أيقظ أمي وأبي، لم أعرف كيف أقول لهما الخبر، انهرت باكيا.. كنت حزينا ذلك الحزن الذي يشعرك بالخجل لخطأ لا تعرف ما هو؟! غير أن الإحباط والأحزان، شقا طريقي في الحياة، كانا مجدافين أشق بهما سطح المياه للوصول إلي شاطئ الفرحة، الأحزان هي العتبة التي لابد أن تتخطاها برفق إلي قاعة الأفراح. يا لحجم الفرحة التي لقيتها في حياتي بعد تلك الليلة والتي كنت سأحرم منها لو أنني نجحت في الالتحاق بتلك المدرسة التي أغلقت بعد الثورة. تقول الحكمة الصينية إنك لا تستطيع أن تمنع طيور الأسي من أن تحلق فوق رأسك ولكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش فوقها، تعامل مع طيور الأحزان برقة لإغرائها علي المغادرة، لا تسمح لها بأن تبني عشا في قلبك أو فوق رأسك ، في أعمق أعماقك يوجد فارس نبيل وعبد ذليل، والأمر لك، عليك أن توقظ أحدهما وتترك الآخر في سبات عميق. لا أحد قادرا علي حرمانك من حريتك هو قادر فقط علي تقييدها. واحرص علي الكلمات واحترس من الكلمات، يقول الدمايطة، الملافظ سعد، أي أن الألفاظ هي طريقك إلي السعادة، يالتعاسة هؤلاء الذين تفزعهم الكلمات أو تخدعهم الكلمات أو يخدعون البشر بالكلمات. يالبؤس هؤلاء الذين حولوا الكلمات إلي خناجر، أو استخدموها كمفاتيح لأبواب جهنم.